أحدث الردود الأمريكية على مطالب روسيا بضمانات أمنية مقابل خفض التصعيد في أوروبا وأوكرانيا..
قال مسؤول بارز في إدارة الرئيس الأمريكي إن:
- "الولايات المتحدة مستعدة لخوض بحث دبلوماسي في أوائل يناير عبر قنوات عدة... وأكدنا لروسيا أن تقدما جوهريا لا يمكن تحقيقه إلا في أجواء خفض التصعيد".
- "مع ذلك أنه لم يتم حتى الآن تحديد موعد أو مكان لإجراء هذه المحادثات، فإدارة الرئيس بايدن تنوي الرد على المقترحات الروسية خلال هذه المناقشات وليس في المجال العلني".
- "هناك مقترحات من طرف روسيا لن توافق الولايات المتحدة عليها أبدا، إلا أن ثمة مجالات أخرى يمكن استكشافها".
ثلاثة نقاط مهمة للغاية تشير إلى أنه على روسيا أن تتراجع عن خططها بشأن أوكرانيا، وعدم التلاعب بأمن أوروبا وإثالارة القلاقل فيها مقابل أن تنظر الولايات المتحدة في مطالب روسيا. والكلام في هذه النقطة حول قبول واشنطن النظر وليس موافقتها على مطالب موسكو.
بوتين قال في مؤتمره الصحفي إن المفاوضات ستبدأ في مطلع يناير. ومطلع يناير حسب تصريحات هؤلاء يبدأ في 1 يناير وينتهي في 31 يناير. وهذا يتوافق مع رؤية واشنطن بشأن مواعيد هذه المفاوضات. وفي الحقيقة، فواشنطن لم ترفض المفاوضات، وإنما تعاملت معها وفق سيناريو "مرهق" للغاية واستفزازي للصقور الروس. ومن الواضح أن موسكو نفذت مطالب واشنطن بشأن ضرورة التفاهم مع الأوروبيين. والمقصود هنا أن الولايات البمتحدة لن تدخل أي مفاوضات حول الأمن الأوروبي بدون التنسيق مع حلفائها وشركائها الأوروبيين. وبهذا المعنى أيضا أملت الولايات المتحدة على روسيا ضرورة التواصل مع كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهذا ما حدث. لكن لا أحد يعرف نتائج الاتصالات بين موسكو وكل من لندن وباريس وبرلين.
من الواضح أنه لا الولايات المتحدة ولا بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا قد أعطت روسيا أي ردود. بينما تتعجل الأخيرة بعد أن أدلت بتصريحات ساخنة وصلت إلى حد التهديد بالحرب وإطلاق أحدث ما في ترسانتها من أسلحة صوتية وغير صوتية.
يبدو أن المفاوضات ستطول لفترة غير متوقعة وغير محسوبة، لأن روسيا (حسب تقارير خاصة جدا) فخخت المطالب التي وجهتها لحلف الناتو وواشنطن وبروكسل، ووضعت بينها مطالب مستحيلة التنفيذ لتمنح نفسها الذرائع الكافية للتصرف ليس فقط في أوكرانيا، بل وأيضا مع كل من بولندا ورومانيا ودول البلطيق أولا، ثم دول أوروبا العجوز ثانيا.
من الملاحظ أن الطرفين الروسي والأمريكي الأطلسي أجهدا نفسيهما في "الجعجعة"، لكن لا أحد منهما يمكنه أن يشن حربا على الآخر لأسباب كثيرة يعرفها أطفال المدارس كما يعرفها ساسة ورؤساء الطرفين. لكن هذه "الجعجعة" ضرورية لكل من بوتين وبايدن تحديدا بسبب مشاكلهما الداخلية في عدد من المجالات التي وإن اختلفت، فإنها في نهاية المطاف تؤثر كثيرا على شعبيتهما من جهة، وتمتلك تأثيرا سلبيا على المجتمع والرا] العام في المستقبل من جهة أخرى.
إن هدوء بوتين وتراجعه عن التهديد والدمار لا يعني أن الأمور اتجهت نحو التهدئة. الفكرة أن الغرب أكثر خبثا ودهاءا، ولديه إمكانيات وأدوات للتسويف وللضغط وللاستفزاز، بينما بوتين يريد إيران وسوريا والقرم وشرق أوكرانيا بدون أن يدفع ثمنا مرضيا للغرب. بينما الغرب من جانبه يُكوِّن تحالفات موضعية صغيرة في آسيا والمحيط الهادي، ويترك لروسيا مناطق الغبار البشري والنقاط الفقيرة التي تحتاج إلى أموال ومساعدات مادية وإهدار موارد لا تستطيع موسكو أن تقوم بها. وبالتالي، تقوم بها الصين جزئيا ووفق شروطها، الأمر الذي سيخلق إن عاجلا أو آجلا مشاكل بين موسكو وبكين...
أفضل الاحتمالات وأقربها إلى الواقع، حسب المؤشرات الموجودة، أن الأمور ستنتهي كما انتهت أزمة الصواريخ الكوبية، أي لا غالب ولا مغلوب، مع تجميد الأوضاع كما هي عليه، واستمرار اجتذاب أوكرانيا وجورجيا نحو الناتو، وزيادة نفوذ الحلف في البحر الأسود، وتحسين العلاقات الغربية مع جمهوريات آسيا الوسطى، وتشجيع أذربيجان على المضي قدما نحو تركيا (رغم مشاكلها مع الغرب)، ودعم التحالفين الجديدين في شرق آسيا والمحيط الهادي.. وطبعا مع الإبقاء على العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية و"العلمية" على روسيا...
في حال إذا نشبت حرب ما، فإنها ستكون حربا موضعية صغيرة، ستدعم فيها روسيا انفصال شرق أوكرانيا، أو إسقاط السلطة في كييف، وتوجيه بعض الصواريخ لبولندا ورومانيا ودول البلطيق كنوع من التهديد والضغط إلى أن تنتهي من موضوع شرق أوكرانيا بشكل يمنحها أوراقا إضافية لمواجهة الناتو والولايات المتحدة. لكن احتلال شرق أوكرانيا أو إسقاط حكومة كييف لا يزال بعيدا بعض الشيء، لأن موسكو في مأزق بسبب مشاكل داخلية كتيرة جدا من الصعب حلها حتى بإشعال حرب مع أي دولة...
وجود بيلاروس إلى جانب روسيا ليس إنجازا أو مكسبا ضخما أو دعما جبارا، فبيلاروس تقبض ثمن ذلك، وتستنزف موارد كثيرة من روسيا. وهو أمر شبيه بتواجد روسيا في سوريا من حيث تبديد الموارد والفوائد والجدوى. ولذلك ترك الغرب بيلاروس لروسيا.
هناك ملاحظة مهمة جدا بخصوص شرق أوكرانيا. فمشكلة السلطة المركزية في كييف مع إقليمين فقط في شرق أوكرانيا، هما "دونيتسك" و"لوجانسك". لكن شرق أوكرانيا ضخم للغاية وبه أقاليم ومدن كثيرة لا مشاكل بينها وبين كييف. وروسيا منحت سكان دونيتسك ولوجانسك جوازات سفر روسية كما فعلت في القرم وسيفاستوبول، وذلك تمهيدا لأي خطوات لاحقة للرد على خطط الناتو بضم أوكرانيا. أي أن شرق أوكرانيا ضخم جدا وليس فقط هاتين المدينتين. لكن موسكو تتحدث عن أن مشاكل كييف مع نصف أوكرانيا لتسهل لنفسها الأمور فيما بعد في حال وصول الأمور إلى نقطة ساخنة تتطلب المزيد من الضغوط والمغامرات.