متحلقون نحن الخمسة بما فيهم ابنها حول الطبلية الكبيرة ولمبة الجاز نمرة 10 التى كانت تهيؤها لنا أم أشرف (( وأشرف هذا هو أحد أفراد المجموعة المصغرة المنبثقة عن مجموعة الدرس التي يتولانا فيها الأستاذ ( عبد القوي ) تعليما فى كل المواد عدا العلوم التي كان يتولانا فيها الأستاذ "أحمد علي" ذو الأصول التركية والبشرة البيضاء المشربة بالحمرة منذ بدء دراستنا الإبتدائية حتى وصولنا إلى نهاية الشهادة)) ....كنت أول من يصل بيت ( أم أشرف) قبيل المغرب وهى جالسة أمام باب الدار العتيقة تنظف بورق الجرائد القديمة زجاج لمبة الجاز الرقيقة المتسخة بهباب الليلة الماضية، باعتباري قائد المجموعة الذي عينه الأستاذ ( عبد القوي ) مشرفا عليها ونائبا له، قائما بأعماله ولا يحق لأحد من أفراد المجموعة مراجعتي أو الإعتراض علي في درجة ما منحتها له، وأنا أصحح الواجب الذي أعطيته لهم أو التذمر علنا من عقاب توعدته به لدى الأستاذ فى يوم الدرس التالي ، فهم يعلمون أن هذا من صلاحيات قائد المجموعة الذي عينه الأستاذ ..
ورغم أن الأستاذ ( عبد القوي) كان يدرس لنا فى المدرسة اللغة العربية فقط ، إلا أنه في الدرس - وهو أشبه بكتاب تحفيظ القرآن الكريم - ونحن نجلس أمامه على الحصر الخوص فى غرفة الدرس الواسعة فى بيته الكبير الكائن فى أطراف البلدة، كان يدرس لنا كل المواد عدا العلوم ،،، لم يكن الأستاذ ( عبد القوي ) يعتبر نفسه مسئولا عنا في المدرسة أو حتى فى الدرس الذي لم يكن يتلقى منا مقابله إلا مبلغا متواضعا، لا يتعدى قروشا قليلة في الشهر لكل منا، بالقياس للمجهود الضخم الذي يبذله معنا، بل كان يتغاضى عمن لا يستطيع من العيال دفع مقابل الدرس، وكان يعتبر نفسه فوق ذلك مسئولا عنا خارج المدرسة والدرس ؛ يقسمنا إلى عدد من المجموعات الفرعية، كل مجموعة على رأسها قائد يختاره بنفسه يكون مسئولا أمامه عن التطور النوعي والسلوكي لأفراد المجموعة، ولا يكتفي بذلك فقط بل كان يمر بنفسه على مجموعات الدرس فى أوقات مجهولة لنا وغير معلومة العدد فقد يمر في بدء أو في منتصف أو قبيل انتهاء عمل المجموعة، وقد يمر على عدد قليل أو كثير أو كل المجموعات أو لا يمر على أى مجموعة يوما ما..
كذلك لا يفرق معه صيف من شتاء إذا قرر المرور، فقط تفرق معه طريقة ملبسه، فى الصيف يرتدي جلبابه الصيفي الفضفاض فاتح اللون، وفي الشتاء يرتدي جلبابه الشتوي داكن اللون، فوقه جاكيت صوفي أسود اللون، ثقيل، طويل يصل إلى أسفل ركبتيه ، مع عكاز ييسر له المرور عبر الطرق الموحلة في الشتاء ،، كان الولد منا يشعر أن الأستاذ ( عبد القوي ) هو قدره الذي قد يهبط عليه فجأة دون أن يدري حتى وهو يلعب ( كوتشينة) مع العيال على مصطبة طينية من مصاطب البلدة وإن كانت منزوية في حارة ضيقة، ظانا منه أن الأستاذ لن يراه، فإذا به حاضرا بهيئته المرعبة، لحظتها ينخطف لون الولد لاعب الكوتشينة وتهرب دماؤه، ويسكنه يقين بأن ملك الموت قد أتاه، وإن تجاوز صدمة المواجهة المفاجئة فيكون على يقين بأن (الفلكة) بحبلها الناشف وعصاها المتينة ستكون من نصيبه في حلقة الدرس القادمة وأنه سيكون مسخرة الدرس ..
لامفر إذن إلا من السير على الخطى التي يريدها لنا الأستاذ ( عبد القوي)،، فى تلك الليلة الشتوية قارسة البرودة من شهر طوبة، ونحن متحلقون حول الطبلية ولمبة الجاز نمرة 10 فى صالة الدار الواسعة لبيت (أم أشرف) وكنت قد أعطيت عيال المجموعة واجبا وأنتظر أجوبتهم ،، وفيما كان العيال منهمكين فى حل الواجب وأنا أتابعهم فوجئت به قاعدا متربعا على الحصيرة الخوص بجوارنا يضبط هندامه وجاكته الصوفي، ينفض عنه ذرات المطر التي تناثرت فوقه وهو في الطريق إلينا، نظرت نحوه بوجل وقلبي مطرقة تدق بعنف فى صدري بينما كان العيال منكبين على حل الواجب في كراساتهم ، أشار إلى بسبابة يده اليمنى إشارة فهمت منها ألا أنطق..
انتهى العيال من حل الواجب وحين رفعوا رؤوسهم لإعطائى الكراسات فوجئوا به بيننا، انعقدت ألسنتهم واصفرت وجوههم ، وأشار إلى أن أصحح الواجب للعيال وأمنح كلا منهم ما يستحقه من الدرجات ،، بعد أن انتهيت هم واقفا مرتكزا على عصاه رافضا شاي ( أم أشرف) ، وما أن خرج حتى تحلقنا حول ( أم أشرف) لنعرف منها كيف دخل وكيف فاجأنا بجلوسه إلى جوارنا، فأخبرتنا أن باب الدار الخشبي به ثقب جانبى يكشف مابداخل الصالة، أطل منه علينا، وأمرها بألا تنطق ودخل يتلمس أرض الصالة بأطراف أصابع قدميه حتى أخذ مكانه بجوارنا..
ظهر اليوم التالي - وكان فيما يبدو قد مر على كل المجموعات ووجدها تلهو وتعبث-، وفى غرفة الدرس الواسعة وأمام السبورة الكبيرة نادى بصوته الجهوري على مجموعتنا المسماة بإسمي لتقف أمام السبورة، ورغم أننا لم نفعل شيئا نعاقب عليه إلا أننا قمنا واحدا تلو الآخر يتخبط بعضنا في الآخر حتى اصطففنا بجوار مقعده، نادى على ابنته داخل بيته بأن تحضر (الفلكة) وملحقاتها فكانت حاضرة فى ثوان أمامه، قال : اثنان من المجموعة يقبضوا على (الفلكة) من الناحيتين لعيال الدرس كلهم بالدور، ونهض واقفا لينفذ العقاب بعصاه الغليظة على الأقدام المرفوعة باتجاه سقف غرفة الدرس، يأكل الولد علقة (الفلكة) فلا يستطيع السير على قدميه فيهرع متقافزا على أطراف أصابعه، وكأنه يتفادى جمرا ملتهبا نحو البلكونة الواسعة الملحقة بالغرفة مفترشا الأرض لينفخ فى قدميه الحمراوين المتورمتين ،،،،،،!،!