قبيل الفجر بدأت والنوم فى اشتباكنا الأزلي، لم يفلح دس رأسي بين وسادتين لاستجلابه، لست أدري لماذا تناصبني العداء ياغريمي وتترفق بآخرين حين يستدعونك وتدعهم يمضغونك بيسر بل تتماهى معهم، وتشاركهم معزوفة الشخير النشاز وأنت راض عنهم؟!
من فوق الوسادات أتاني أنين الهاتف يستجديني للرد، كان على الطرف الآخر طبيب الاستقبال في المستشفى يريدني لمناظرة سيدة ساءت حالتها فى طريق القاهرة- الغردقة - ، كانت قادمة من عيادة الطبيب الكبير في القاهرة بعد أن فحصها على عجل وتركها لمصيرها فى الطريق الطويل مع أبنائها دون أن يعبأ بتحويلها إلى أحد مستشفيات القاهرة العامرة، سقطت السيدة فى الطريق بعد العين السخنة قرب كافيتيريا معروفة هناك, ونقلت بالإسعاف إلى حيث أكون فى مستشفى رأس غارب، وكانت سببا في وضع حد لاشتباكي مع النوم.
فحصتها ودونت علاجها، وأدخلتها العناية المركزة حتى استقرت حالتها نوعا ما، وتركتها برفقة الممرضة والطبيب النائب لمتابعتها وأنا معهما على الموبايل، ثم صعدت. كان النوم مازال شاخصا ببصره متلمظا ينتظرني فى الغرفة، ليواصل اشتباكه معي.
أذن الفجر، فتحت شباك الغرفة، كانت مصابيح الميدان الصفراء مازالت مضاءة والليل مازال صاحيا بينما كان النهار مازال نائما وإن كان يتململ وبدأ يتنفس ويرسل غبشا باهتا، ونسمات طرية تهب من البحر القريب من المستشفى، اكتشفت فجأة أني جائع جدا وفتشت في ذاكرتي لأتذكر آخر مرة أكلت فيها فأيقنت أني لم آكل منذ الصباح السابق ونسيت أن أتغدى وأن أتعشى - غالبا ما أنسى - أو بالأحرى أتجاهل وجبة المستشفى الرديئة - عبر شباك غرفة السكن لفحتني نسمات باردة، كانت الدنيا لاتزال تغط فى نوم عميق لدرجة أنني توهمت سماع صوت شخير جيران المستشفى داخل غرفهم هارباً منها ليتصاعد فى الفضاء، حتى المقاهي الثلاث المقابلة للمستشفى والساهرة دوما كانت مغلقة، لم تفتح أبوابها بعد ومازالت مقاعدها مكومة فوق بعضها صانعة تلالاًصغيرة كأنها أشباح صامتة، كذلك مطعم الفول والطعمية وكشك الجرائد القريب منها مغلقان، وكأنها مؤامرة ضدي، مرت الدقائق ثقيلة حتى رأيت عامل المقهى المقابل يبدأ فى فتح أبواب المقهى ويرص المقاعد البلاستيكية الملونة أمام الرصيف, فهبطت درج المستشفى مسرعاً.
أنعشتني نسمات البحر الطرية المشبعة باليود، قبل أن تطل الشمس من مخبئها على استحياء وترسل خيوطا ذهبية ناعمة, خمنت أنني الوحيد فى هذا العالم الذى أستقبلها فى هذا اللحظة، سرت باتجاه مطعم الفول والطعمية وكشك الجرائد قبل أن أعود للمقهى.
في طريقي للمطعم كان يسير أمامي على أسفلت الطريق غراب قميء بريشه الأسود الداكن ومنقاره الطويل، وهو يصدر نعيقا مكتوما ويتلفت يمينا ويسارا يلقف ماتقع عليه عيناه بنهم، ويقفز قفزات غريبة من صندوق قمامة إلى آخر بحثا عن بقايا طعام، بينما كانت تسير أمامه يمامة وديعة بريشها الرمادي الفاتح ومنقارها الدقيق تبحث عن بعض حبات متناثرة على أسفلت الطريق, وكان باديا عليها بعض هزال ، ورغم أن الغراب كان منتفخا وينفش ريشه من حين لآخر وقد بدت عليه التخمة مما التقطه من صناديق القمامة إلا أنه حين يرى اليمامة الهزيلة تلتقط بعض الحب يهجم عليها، فتبتعد عنه برشاقة راقصة الباليه رغم هزالها إلى الجانب الآخر من الطريق، وأنا من خلفهما أتابعهما وأنا في طريقي للبحث عن طعام وجرائد، وما لفت نظري أن اليمامة لا تخشى من اقترابي منها، ولست أدري لماذا قفز إلى ذهني مباشرة صورة طبيب القاهرة الكبير وقد بدا فى هيئة الغراب المنتفخ أمامي.
ولما وجدت مطعم الفول والطعمية وكشك الجرائد مازالا مغلقين، عدت إلى المقهى وطلبت من عامل المقهى كوبا من القهوة السوداء وشيشة في الهواء الطلق الذي ظل يعابث زجاج الشيشة من حين لآخر وأنا أحميها بقدمي من السقوط، وفى لحظات كانت القهوة قد بردت فازدرتها دفعة واحدة على معدة خاوية، ولدهشتي وجدت نفس اليمامة الهزيلة تقف أمامي، تنظر نحوي بعينين مرهقتين، ومازال الصمت يلف الميدان، عبرت الطريق صوب المستشفى المقابل واليمامة الهزيلة تسير خلفي!