السفير معصوم يكتب : روح أكتوبر .. وروح يناير

 


أن أسوأ يوم في الثورات هو اليوم التالي لنجاحها ، لأن الشارع يمكنه أن يصنع ثورة ، ولكن من الصعب تصور أنه يصنع نظاماً أو دولة ، وأن الثوار يقعون في خطأ كبير حين يكون همهم الأول هو نصب محاكم التفتيش للعهد القديم ..

أعترف أنني ترددت كثيراً قبل أن أكتب هذا المقال ، بل أنني ظننت أن دوري ككاتب قد انتهي بعد أن تحقق الحلم وهب الشباب هبته التي كتبت عنها عشرات المقالات ، ففي ظل اليأس والضباب لم أفقد أبداً إيماني بشباب مصر ، وكنت أثق أنهم سوف يستعيدون روح آبائهم وأجدادهم ، ولذلك كنت دائماً أكرر قصص البطولة في حرب أكتوبر ، وأقول بثقة لقد استطاع آباؤكم ، وأنتم أيضاً تستطيعون ..

وبالطبع لا أزعم أنني توقعت تاريخاً ، ولكنني كنت أدرك أن الروح هناك ، بل وكتبت أنه ربما لا أري تجليات هذه الروح قبل أن أغادر هذه الدنيا .. لقد عشت هذه المرحلة شاباً بين شباب العبور ، وأعرف يقيناً جوهر الإنسان المصري التي توهجت في إختبار ميادين القتال ، وقدمت لشعب مصر لحظة فرح تاريخية أطلقنا عليها " روح أكتوبر " .. وهي لحظة سرعان ما تلاشت لأسباب ليس هذا محلها ، ولكنها موجودة بين سطور عديدة كتبتها وكتبها الآخرون ..

ظننت – كما قدمت – أنه آن الأوان لإنسحاب سطوري بعد أن سطر شبابنا أروع السطور خلال الأيام الماضية ، معزياً نفسي بأن ما كنت أقوله دائماً عن تسليم عصا التتابع لجيل جديد قد حدث بالفعل ، وأن الشباب قد أمسكوا بمصيرهم ومصير أمتهم وليس علي الشيوخ أمثالي سوي إفساح الطريق لهم والتأهب لمغادرة المشهد إلي صفحات كتب التاريخ ...

ترددت أيضاً في الكتابة لأنني لاحظت حالة " إسهال " غير عادية في السطور التي سالت تمجد في " الثورة " وتلعن في " العهد البائد " ، وأكثرها لأقلام كم تغنت بذلك " العهد " الذي صار بين ليلة وضحاها " بائد " .. انعقد المولد الجديد ، واندفع الدراويش بمباخرهم يرقصون حول الولي الجديد وهم يتطوحون في انبهار وإبهار .. وجدت أنه لا ينبغي المشاركة في هذه " المكلمة " ، خاصة أن الكتاب الذين أكتشفوا " ثوريتهم " مؤخراً  قد لا يجدوا فيما أكتبه جرعة " ثورية " كافية .. 

ومع ذلك خشيت أن تتسرب " روح " يناير ، كما تسربت " روح " أكتوبر .. وأن تضيع دماء شهداء ميدان التحرير ، كما ضاعت دماء شهداء سيناء .. لذا قررت أن أكتب ..

وأول ما ينبغي أن نتوقف أمامه هو مسألة التعريف ، كي نحدد بدقة ما الذي حدث ، فهل نحن حقيقة في مواجهة " ثورة " ؟ .. أظن أن أي دارس للتاريخ والعلوم السياسية يعرف ما هو تعريف الثورة ، فهي بشكل عام تعني نزع جذور نظام سياسي وإقتصادي وإجتماعي وثقافي وتنظيف التربة لبذر نظام جديد ، فهي ليست مجرد تغيير الحاكم أو الوزارة أو إبعاد الحزب الحاكم ، ليست مجرد فصل لمجموعة أشخاص وإحلال أشخاص محلهم ، ليست مجرد شعارات حماسية بلا مضمون ، ليست مجرد إحتلال لميدان أو مجموعة ميادين ...

أن ما حدث علي أهميته وجلاله هو إنتفاضة غاضبة ، وقد كان ذلك هو الإسم الأول " ثورة الغضب " ، أي مجرد صيحة إحتجاج قوية ومزلزلة تمحورت حول شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " ، ثم تتالت الأحداث التي نعرفها حتي كتابة هذه السطور ، وأهمها تخلي الرئيس عن منصبه ، وتوالت الهتافات والأغاني بإنتصار " الثورة " ...

من نافلة القول أن أذكر أنه من السهل أن تهدم وأن الصعب هو البناء .. فمن الممكن الهدم بشكل أعمي ، ولكن البناء يتطلب رؤية ورسم هندسي محسوب بدقة ومهارة وكفاءة في التنفيذ وزمن لا مناص من مروره ، والأهم هو توافر روح الفريق والتصميم علي الهدف ، والرقابة  وممارسة النقد الذاتي ...

أعرف أن " الثوار " لديهم رؤية محددة : " دولة مدنية ديمقراطية حرة " ، وهو عنوان هائل لمجتمع توجد به نسبة هائلة من الأمية ، ونسبة هائلة تعيش تحت خط الفقر ، ولا تزال النخب المعتبرة فيه تتصارع مثل الديكة علي السلطة والثروة .. أعرف أيضاً أن " الثوار " يريدون تغيير الدستور ، والواقع أن الدستور الحالي يحمل العديد من المبادئ والقواعد التي لا غبار عليها فيما يتعلق بالحقوق والحريات ، وأي تغيير محتمل سوف يتعلق بالنظام السياسي والقواعد الحاكمة للسلطة السياسية وأسلوب ممارستها ، فإذا كان النظام القانوني هو انعكاس لمدي تطور المجتمعات ، فهل يمكن لأي وثيقة – وحدها – أن تطور المجتمع ؟ .. 

أتذكر هنا الدساتير المختلفة منذ دستور 1923 وحتي دستور 1971 ، وأتذكر أن " محترفي " السياسة كانوا يتنقلون بين الأنظمة القانونية المختلفة بسهولة ويسر ، ويكفي تصفح الوجوه كي نتبين هذه الحقيقة ، فهناك من تنقل من هيئة التحرير إلي الإتحاد القومي إلي الإتحاد الإشتراكي إلي حزب مصر إلي الحزب الوطني الديقراطي ، وربما ينضم الآن بحماس إلي حزب " ميدان التحرير " ...

أعرف أيضاً أن أحد الشعارات المعروفة هو " العدل الإجتماعي " ، ومحاربة " الفساد " ، ولكن العدل الإجتماعي يتطلب تنمية إقتصادية ( وليس مجرد نمو ) ، وثقافة مجتمعية إشتراكية ، كما أن " الفساد " ليس قيمة مطلقة وإنما ثقافة وسلوك ، وهو مثل أي ثقافة وسلوك يتطلب ثقافة وسلوك مضاد ولفترة غير بسيطة من الزمن .. ومن ناحية أخري ، فأن مجرد رفع الشعار لا يعني تحقيقه في الواقع ، فقد كان ما يسمي الآن " النظام البائد " يعلن تكراراً إنحيازه للمعدمين ، وحربه علي الفساد والمفسدين ...

خلاصة القول أن ما حدث في مصر هو انبعاث للروح ، لا تختلف كثيراً عن الروح التي بعثها شباب مصر في عبور قناة السويس ، والمهمة الأولي الآن هي الحفاظ علي قوة الدفع وحماية هذه الروح من أن تلوثها النخب الفاسدة ، لقد كانت روايتي الأولي ( أشجار الصبار ) قبل ما يزيد علي ربع قرن ، تحكي عن مجموعة من الجنود العائدين بعد حصار في الجبهة وتم إحتجازهم في قسم الأمراض النفسية ، محاولة لعزلهم حتي لا تنتقل عدواهم إلي المجتمع ، وأتصور أن ذلك هو ما حدث بالضبط ، ولا أتمني حدوثه لروح يناير ..

أن روح يناير الغاضبة يجب أن تكون طاقة للبناء بشكل علمي صبور ، تتحرك خطوات محسوبة إلي الأمام وتنتشر كنار مباركة في أضلاع السياسة والإقتصاد والثقافة وسلوك البشر ، وعندما يتحقق ذلك فأنها سوف تستحق وصف " الثورة " التي تحقق طموحات كل إنسان علي أرض مصر في الحرية والكرامة والمساواة ...

هذا المقال كتبته في منتصف فبراير ٢٠١١ بعد مغادرة مبارك مباشرة بأسبوع،

تعليقات