منذ نحو أربعين عاما وهي لازالت على هذا الحال حينما تقابلني مصادفة في الطريق أو يجمعني بها مكان ما، تقف شاردة قبالتي، تتفرس ملامحي، ويكسو وجهها حزن عميق آت من عمق الزمن، من حيث ذهب ولم يعد في ذلك اليوم المشئوم الذي نزل فيه بحر النيل كغيره من العيال والكبار فجأة حينما انقلبت سيارة النقل الكبيرة المحملة بالفاكهة قرب كوبرى البلدة، وتدحرجت محتويات السيارة إلى بحر النيل الواسع المرتفع للحواف من الجانبين، وانجرف وراءها كل الطامعين في الحصول على كمية من الفاكهة التي تدحرجت سريعا نحو الماء، نزل كغيره لكنه خرج من الماء جثة هامدة، عيناها المملوءتان بالدموع الساخنة لم تزل ساخنة ولم تستطع الأيام والشهور والسنون أن تبردهما، تسائلني عيناها دونما انتظار لإجابة : أين ذهب ؟! ..ولا أمتلك إلا الصمت الحزين والنظرات البائسة محاولا مشاركتها حزنها الأبدي، لم أضبطها يوما ما منذ أن فقدته في ذلك اليوم البعيد متلبسة بضحكة أو بشبح ابتسامة، أو حتى بتعبيرات وجه مرنة متجاوبة مع من حولها، بل أشعر أن وجهها القديم في ذلك اليوم الأسود الذي وارته فيه التراب -بعد أن انتشله المتطوعون من النيل بعد غرقه- توقفت تعبيراته الثكلى عنده دون أن تتجاوزه، بعد فترة صمت طويلة من تلاقينا تمد يدها نحوي قائلة بصوت خفيض : إزيك يادكتور ناصر ؟ وأرد : بخير الحمدلله، إزى حالك ياأم خالد مش محتاجة حاجة ؟! وحينما تسمع مني هذه العبارة تنفرط حباب الدموع الساخنة على خديها رغما عنها وكأنها ودعته بالأمس أواليوم فقط، وليس منذ عشرات السنين، حتى رداؤها الأسود لم تبدله منذ فقدته وابتلعه الماء ،، وكأنه هو نفسه ذات الرداء الذي ظلت تأتي به يوميا لأسابيع بل ربما لشهور متتالية إلى المدرسة وإلى مواعيد الدرس فى بيت الأستاذ( عبد القوي) ، تسائل الأستاذ وزملاءه عن : خالد الذي كان يجلس بينكم، وعن أين ذهب، ومتى سيعود؟! كان نشيجها ونحيبها يمزق قلوبنا نحن زملاؤه الصغار، وأكاد أحيانا ألمح وقد كنت قريبا دوما فى جلستي من الأستاذ؛ أكاد المح الدمعة الصعبة تطفر من عينيه وتهبط باستحياء على صدغه المكتنز العريض، ويسارع هو بمسحها بكلتا يديه وهو يمسح وجهه كاملا كعادته من حين لآخر، رغم علمي بقسوة مشاعره التي كانت تظهر لنا ، ..... فاكر يادكتور ناصر لما كان تعبان فى يوم وجئت له البيت أنت وزميلك عماد حاملين القصب والبرتقال ليلا وأطلتم في الجلوس معه دون أن تخبر أمك وكنا ليلا حالك الظلام، ولم تعلم أنها طافت دروب القرية وأزقتها وبيوت زملائك بحثا عنك وحين أتت إلينا نهرتك ووبختك لأنك لم تخبرها أين أنت ؟! وأرد قائلا لها : فاكر كويس يا أم خالد!.. فتعقب بسرعة : شفت لما بعدت عن أمك ساعات دون أن تخبرها أين أنت ماذا فعلت؟! فماذا أفعل أنا وأنا لازلت أبحث عنه كل هذه السنين الطويلة ولم أصدق حتى اليوم أنه ذهب إلى الأبد ولن يعود !!
" أم خالد " .. نص قصصي بقلم : مجدي أبو السعود
منذ نحو أربعين عاما وهي لازالت على هذا الحال حينما تقابلني مصادفة في الطريق أو يجمعني بها مكان ما، تقف شاردة قبالتي، تتفرس ملامحي، ويكسو وجهها حزن عميق آت من عمق الزمن، من حيث ذهب ولم يعد في ذلك اليوم المشئوم الذي نزل فيه بحر النيل كغيره من العيال والكبار فجأة حينما انقلبت سيارة النقل الكبيرة المحملة بالفاكهة قرب كوبرى البلدة، وتدحرجت محتويات السيارة إلى بحر النيل الواسع المرتفع للحواف من الجانبين، وانجرف وراءها كل الطامعين في الحصول على كمية من الفاكهة التي تدحرجت سريعا نحو الماء، نزل كغيره لكنه خرج من الماء جثة هامدة، عيناها المملوءتان بالدموع الساخنة لم تزل ساخنة ولم تستطع الأيام والشهور والسنون أن تبردهما، تسائلني عيناها دونما انتظار لإجابة : أين ذهب ؟! ..ولا أمتلك إلا الصمت الحزين والنظرات البائسة محاولا مشاركتها حزنها الأبدي، لم أضبطها يوما ما منذ أن فقدته في ذلك اليوم البعيد متلبسة بضحكة أو بشبح ابتسامة، أو حتى بتعبيرات وجه مرنة متجاوبة مع من حولها، بل أشعر أن وجهها القديم في ذلك اليوم الأسود الذي وارته فيه التراب -بعد أن انتشله المتطوعون من النيل بعد غرقه- توقفت تعبيراته الثكلى عنده دون أن تتجاوزه، بعد فترة صمت طويلة من تلاقينا تمد يدها نحوي قائلة بصوت خفيض : إزيك يادكتور ناصر ؟ وأرد : بخير الحمدلله، إزى حالك ياأم خالد مش محتاجة حاجة ؟! وحينما تسمع مني هذه العبارة تنفرط حباب الدموع الساخنة على خديها رغما عنها وكأنها ودعته بالأمس أواليوم فقط، وليس منذ عشرات السنين، حتى رداؤها الأسود لم تبدله منذ فقدته وابتلعه الماء ،، وكأنه هو نفسه ذات الرداء الذي ظلت تأتي به يوميا لأسابيع بل ربما لشهور متتالية إلى المدرسة وإلى مواعيد الدرس فى بيت الأستاذ( عبد القوي) ، تسائل الأستاذ وزملاءه عن : خالد الذي كان يجلس بينكم، وعن أين ذهب، ومتى سيعود؟! كان نشيجها ونحيبها يمزق قلوبنا نحن زملاؤه الصغار، وأكاد أحيانا ألمح وقد كنت قريبا دوما فى جلستي من الأستاذ؛ أكاد المح الدمعة الصعبة تطفر من عينيه وتهبط باستحياء على صدغه المكتنز العريض، ويسارع هو بمسحها بكلتا يديه وهو يمسح وجهه كاملا كعادته من حين لآخر، رغم علمي بقسوة مشاعره التي كانت تظهر لنا ، ..... فاكر يادكتور ناصر لما كان تعبان فى يوم وجئت له البيت أنت وزميلك عماد حاملين القصب والبرتقال ليلا وأطلتم في الجلوس معه دون أن تخبر أمك وكنا ليلا حالك الظلام، ولم تعلم أنها طافت دروب القرية وأزقتها وبيوت زملائك بحثا عنك وحين أتت إلينا نهرتك ووبختك لأنك لم تخبرها أين أنت ؟! وأرد قائلا لها : فاكر كويس يا أم خالد!.. فتعقب بسرعة : شفت لما بعدت عن أمك ساعات دون أن تخبرها أين أنت ماذا فعلت؟! فماذا أفعل أنا وأنا لازلت أبحث عنه كل هذه السنين الطويلة ولم أصدق حتى اليوم أنه ذهب إلى الأبد ولن يعود !!