سنوات قليلة بين ميلاد المغنية المصرية «شيرين عبدالوهاب» والكولومبية «شاكيرا»، ولو صحت روايات شيرين لأصبحت شاكيرا المولودة فى ١٩٧٧ أكبر ثلاث سنوات، لا بأس، فالفارق بينهما فى الثقافة والوعى يعادل سنوات ضوئية، وأنا من عشاق صوت شيرين وأعتبرها نغمًا مصريًا خالصًا يحمل وترًا حزينًا دافئًا وراقصًا مبهجًا كلما تعالت الموسيقى، ولم أعلق على ما جرى بينها وبين المغنى عمرو دياب، فكلاهما لا يحتل تلك المكانة التى تجعلنى أتابع مشاحناتهما، لكننى أعرف سلوك شيرين من وقائع ومعارك ودعاوى قضائية عديدة كانت طرفًا فيها، وليس جديدًا أن تخرج منها تعبيرات حادة غير لائقة بها، لكن ما تابعته وما أحزننى هو ما جرى فى واقعة «تونس»، حين قالت إن ابنتها تنطق «بقدونس» كلما أرادت أن تقول «تونس»، وغضب الأشقاء التوانسة، وقادت السيدة «لطيفة» معركة استرداد الكرامة التونسية ردًا على ما اعتبرته سخريةً من بلدها، وأفردت الصحف التونسية قصصًا وحكايات عن «جهل الفنانين المصريين»، ودخل على الخط أصحاب هوى وبقايا إخوانجية فسبوا مصر وشعبها وبالغ من بالغ ونفخ فى النار من نفخ.
كان بإمكان «شيرين» التى أوقعتنا معها فى هذا الخطأ أن تتحدث قليلًا عن علاقتها بالبلد، وكيف رأت شوارعه وطبائع ناسه، كان يمكنها أن تتحدث عن الأكلات التى أحبتها وتذُكر فى كلامها بعض أسماء نجوم الفن التونسى، وساعتها كان التوانسة سيتفهمون العبارة العفوية التى نطقتها ابنتها وربما ضحكوا من خفة دمها المصرى، لكن شيرين- كما عشرات الفنانين الذين يذهبون سفراءً لنا فى الخارج فيتركون أسوأ انطباع عنهم وعنّا- لم تفعل لأنها لم تتعلم فن التحضير للقاءات الإعلامية، ولم تتعلم قبل مواجهة الكاميرات أن كل كلمة محسوبة وبدقة، ليس لنجوميتها هى أو غيرها بل لمصريتها، فنحن تاريخ الفن وصفحاته مكتوبة على أرضنا، ومن الطبيعى أن ينتظر الصحفيون والإعلاميون فى كل البلدان ثقافةً ووعيًا إن تحدث فنان مصرى فى مؤتمر إعلامى.
الحقيقة أننا كمجتمع يضم مثقفين وسمّيعة وهواة طرب نتحمل كل خطايا شيرين أو غيرها من طابور فنانين يفتقدون اللياقة واللباقة وحلو الحديث، كان من الضرورى تقريبهم جميعًا من محيط المثقفين والمفكرين والكتاب، وكان هذا تقليدًا مصريًا معروفًا فى تربية أجيال من الممثلين والمطربين، فلم تتعلم سعاد حسنى قراءة الشعر وتحتفظ بالوعى إلى جانب قدراتها الفنية إلا فى بيت صلاح جاهين، الذى احتضن معظم أبناء هذا الجيل واستمر- رحمه الله- فى تبنى الموهوبين ورعايتهم وتثقيفهم حتى مرّ عليه جيل أحمد زكى وشريف منير، وكانت شلة الحرافيش التى ضمت عددًا من أشهر الممثلين والمطربين بقيادة نجيب محفوظ مدرسةً مصريةً فى مزج الفنون وتهذيب وتعليم وتثقيف الأجيال الصاعدة فى سماء الفن.
شىء ما يستطيع المثقف إضافته إلى الفن، ربما يظهر فى السلوك، فى اختيار الأعمال المناسبة ورفض غيرها، طريقة الكلام، إدراك معنى «الفن» كرسالة وسفير يحمل ملامح وطن كلما حط فى بلد واستضافته عاصمة، شىء ما جعل من «شاكيرا» أيقونة وأسطورة كولومبية عندما اقتربت من الروائى الأكثر شعبية فى موطنها «ماركيز»، شىء ما جعل عبدالحليم حافظ قريبًا من صلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الأبنودى ويوسف إدريس، أشياء كثيرة أضافها المثقف الموسيقار محمد عبدالوهاب إلى كل الذين سمح لهم بالاقتراب منه، كثير من هذه الأشياء اكتسبها عبدالوهاب نفسه من علاقته بأمير الشعراء أحمد شوقى.
ما تكبرش الموضوع.. من حقك تقول كدا طبعًا، لكن الأمر يحتاج تكبيرًا يا صديقى، وإن لم نتعلم من كل المواقف المخجلة التى تعرضنا لها كمصريين بسبب زلات اللسان وسطحية المعرفة، سنتحول إلى أضحوكة تسمح للصغار بالتطاول على مصر والسخرية منها.
ماركيز (مواليد ١٩٢٨) صاحب نوبل والروائى الأشهر فى العالم، والذى عاش وسط أحراش الغجر وحقول البن، ونام مع الجوعى وعايش آلامهم وضحكات أطفالهم فى المساء، أدرك مبكرًا أن هذه الفتاة ثروة قومية وعليه كمفكر وكاتب كبير أن يدعمها ويضيف إليها رائحة الخوخ كلما أطلت على العالم، رائحة كولومبيا الساهرة حتى الصباح فى الضحك والبهجة رغم الفقر، وكتب عنها مقالًا هو الأشهر وصفها فيه بالعقل الراقص الذى يطوى العالم بين جناحيه، وشاكيراـ كما يراها ماركيزـ تنثر عطر كولومبيا وبقايا شجر الأرز اللبنانى كلما استغرقت فى الموسيقى وغابت عن الجمهور، وعبرتْ أنثى الموز حدود القارة اللاتينية، لينتشر اسمها بين أوساط الشباب فى أوروبا وأمريكا، فتعلمت أجيال جديدة أن الغجر ليسوا عصابات وإنما ثقافة وفنون وبشر يحبون الحياة، شىء ما أضيف إلى الفتاة التى تصغر كاتبنا الكبير بخمسين عامًا، شىء ما جعل أنثى الموز جزءًا من ثقافة الوطن ومعناه، فتعلمت العديد من اللغات منها العربية وقرأت كثيرًا، وكلما تحدثتْ ضمّنت كلامها عبارات لفلاسفة وأدباء، واهتمت بالأطفال فى وطنها وأسست الجمعيات الخيرية، وجعلت كولومبيا أرض الفن والإنسانية وليست أرض الماريجوانا والكوكايين وعصابات قتل النساء، كما روجت