بمناسبة المفاوضات التي تجري حاليا في فيينا بين ايران والدول الست الكبري في العالم حول مستقبل الاتفاق النووي المعطل بالقرار المنفرد للرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب منه في عام ٢٠١٨ وما اعقب ذلك من تطورات مهمة علي اكثر من صعيد وفي اكثر من اتجاه،
اعود واقول انه قد سبق لي في اكثر من مناسبة تناول هذه العملية التفاوضية الشائكة والمعقدة ، وما يكتنفها من صعوبات هائلة ومحاذير شديدة ، ومن مشاعر عدائية وشكوك متبادلة واتهامات مستمرة ، وهو ما يجعل منها عملية تفاوضية من نوع خاص جدا ، ويدفع بها في مسارات قد تنتهي بها الي الانهيار والفشل التام ما لم تتداركها معجزة في اللحظة الاخيرة...
وقد اشرت من قبل الي ان المفاوضين الايرانيين ليسوا كاي مفاوضين ، وان النهج التفاوضي الايراني ليس كاي نهج تفاوضي آخر ، اذ ان لهذا النهج التفاوضي الايراني سماته المختلفة التي تستحق الوقوف عندها وتحليلها لكي نعرف الي اين يتوقع مسار المفاوضات التي تجري حاليا في فيينا، والي ماذا يمكن ان تنتهي باطرافها المشاركين فيها...
تتمتع الاستراتيجية التفاوضية الايرانية بالنفس الطويل ، وبقدرة فائقة علي المناورة والمراوغة ، وببراعة شديدة لا تجاري في الجمع بين المرونة والتصلب واللين والتشدد بصورة لا يقدر عليها كثير من المفاوضين ، وبمهارة عالية في توظيف عامل الوقت بقصد استنزاف الجهود والطاقات التفاوضية للاطراف الست الاخري ، واثارة الخلافات والانقسامات بينهم حول ما يجب ان يكون عليه ردهم المشترك فيما اذا تعذر التوصل الي اتفاق جديد معدل مع ايران يحل محل الاتفاق النووي القديم الذي يدور حوله كل هذا الجدل والخلاف.....
ويرتكز الموقف التفاوضي الايراني في فيينا علي اساس انه اذا كانت هناك شروط امريكية لاحياء الاتفاق النووي المعطل ، فان هذه الشروط الامريكية لا بد وان تقابلها شروط ايرانية مماثلة خاصة ان ايران لم تكن هي الدولة المبادرة بالانسحاب من هذا الاتفاق وظلت ملتزمة به ولم تحاول ان تخرج عنه ، وان العودة اليه لا يمكن ان تتم هكذا بلا مقابل كما يحاول الامريكيون داخل مفاوضات فيينا وخارجها ، وانما يجب يسبقها او يتلازم معها رفع العقوبات الاقتصادية الامريكية الصارمة المفروضة علي ايران بلا قيد او شرط حتي تكون الصفقة عادلة للطرفين..وهو ما يرفضه الامريكيون، ظاهريا او حتي الآن علي الاقل ، ونقصد تحديدا عند هذه المرحلة من مراحل التفاوض حتي يصوروا انفسهم وكانهم يتفاوضون مع الايرانيين من موقع القوة والقدرة علي املاء الشروط وانتزاع التنازلات ، وهو امر يعلم الامريكيون قبل غيرهم انه لا اساس له من الحقيقة او الواقع ، وان الايرانيين ليسوا من الغفلة او الغباء او السذاجة الي هذا الحد. فهم مفاوضون عنيدون ويعرفون كيف يلعبون اوراقهم ويجيدون توظيف المواقف لصالحهم علي قدر الامكان...
وكما نتوقع ، فان المفاوضين الايرانيين سوف يحاولون في مفاوضات فيينا اغراق نظرائهم في دوامة عميقة من الاشكالات الفنية الصعبة فيما يتعلق بنظم تشغيل مفاعلات ايران النووية والرقابة علي ما يدور فيها ، ومن المطالب والشروط المتشددة، ومن اصرارهم علي الحصول علي ضمانات قوية موثوق فيها تحول دون تكرار ما حدث من قبل الادارة الامريكية السابقة ، وهذه الشروط والمطالب الاساسية التي لا نعتقد ان ايران في ظل رئاسة وحكومة متشددة اتي بها الحرس الثوري الي موقع السلطة، سوف تتنازل عنها او تساوم عليها ، قد تعرقل بشدة التوصل الي اتفاق متوازن ومقبول لكل الاطراف، وقد يفضي تصلب المواقف علي الجانبين الامريكي والايراني ورفض تقديم التنازلات المتبادلة ، الي انهيار مفاوضات فيينا برمتها ، او الي تعليقها او تجميدها، وهو ما يعني ان ايران سوف تمضي في اتمام ما بداته والوصول ببرنامجها النووي الي هدفه النهائي الذي خططت له ودفعت فيه ثمنا فادحا لسنوات، وهو ما تسعي حقيقة اليه بعد التقدم الهائل الذي حققته في هذا المضمار ووضعها علي عتبة انتاج سلاحها النووي الاول الذي سوف تضع به العالم امام امر واقع جديد ، فضلا عن انه سوف يحدث تحولا خطيرا في موازين القوة الاقليمية وبالاخص في منطقتي الشرق الاوسط والخليج ، وينهي احتكار اسرائيل للاسلحة النووية وهو ما جاهدت طويلا للحفاظ عليه ، وهي تحولات استراتيجية وسياسية فارقة سوف يكون لها ما بعدها ، الخ.
اما ادارة الرئيس الامريكي جو بايدن فهي في ذروة تخبطها وارتباكها وترددها الذي لا تعرف كيف تخرج منه او تتغلب عليه ، وهو ما يجعلها تبدو عاجزة عن اتخاذ قرار حاسم بشان ما يجب ان يكون عليه ردها علي ايران اذا ما فشلت مفاوضات فيينا او انسحبت ايران منها ، فهي عازفة تماما ، كما هو واضح من الاعلانات المتكررة الصادرة عن كبار المسئولين فيها وعلي راسهم الرئيس بايدن نفسه ، عن التحول من الخيار الدبلوماسي الي الخيار العسكري، وهو الخيار الذي تحاول تحاشيه بكل وسيلة ممكنة وباعتبار انه سوف يخرج بها عن سياستها المعلنة علي العالم من ان عصر التدخلات العسكرية الامريكية في النزاعات الدولية قد انتهي واصبح اثرا من الماضي وان الانسحاب من افغانستان هو بداية هذه الحقبة الجديدة في سياسة امريكا الخارجية ، والارجح هو ان ادارة الرئيس بايدن سوف تلجا الي تغليظ العقوبات الاقتصادية علي ايران وعدم التحول عنها الي غيرها من الاجراءات والتدابير العنيفة ، وذلك الي ان ترحل هذه الادارة من موقعها وتترك البيت الابيض بعد ثلاث سنوات من الآن... ومما يدعم هذا الاحتمال في نظرنا هو ان ادارة بايدن تقف حاليا في مواجهة جملة تحديات امنية خطيرة للغاية وبما لا يقارن بها ما يشكله برنامج ايران النووي من خطر علي امنها القومي...اخطار حقيقية وماثلة علي الارض وليست اخطارا افتراضية او محتملة كما هو الحال مع التهديد النووي الايراني الذي ما يزال امامه بعض الوقت الي ان تتضح معالمه او يتبلور بشكل يدعو الي الخوف والقلق....
فالادارة الامريكية الحالية تبدو موزعة بين ما يجب ان يكون عليه ردها ومعها حلف الناتو الذي تقوده وتتزعمه علي تهديدات روسيا لاوكرانيا، وهي التهديدات التي بدات تتصاعد في الآونة الاخيرة بصورة تنذر بكارثة وشيكة تتجمع نذرها الآن في الافق علي نحو ما اشار اليه وزير الخارجية الامريكية انتوني بلينكن في تصريح اخير صادر عنه... كما لا تعرف هذه الادارة كيف ستتصرف حيال تهديد الصين لحليفها التايواني، وهي المشكلة التي اخذت تفرض نفسها علي علاقات امريكا بالصين وتتحرك بهذه العلاقات في مسار ينذر بالخطر.. فضلا عما يحدث علي يد الصين في منطقة بحر الصين الجنوبي من تحركات عسكرية صينية مقلقة للامريكيين واصبحت تثير خوفا امنيا متزايدا لديهم ،وهي لا تعرف ايضا ما يمكن ان يكون عليه ردها علي تهديدات كوريا الشمالية النووية المتصاعدة لامن شبه الجزيرة الكورية، ولامن حليفيها الكوري الجنوبي والياباني بشكل خاص.. فهذه كلها دوائر ملتهبة وقابلة للانفجار وتنذر باثارة حروب وصدامات مسلحة مدمرة قد تكلف امريكا الكثير مما لا ترغبه وتسعي الي تجنبه لما سوف يكون له من تبعات ومضاعفات بعيدة المدي.... ولهذا كله وبسببه ، تضيق خيارات امريكا العسكرية في الرد علي تهديد ايران النووي المحتمل الي نقطة الصفر، وهو ما يجعل ايران لا تخشي رد الفعل الامريكي تجاهها اذا ما فشلت مفاوضات فيينا... وكل ما ذكرته هنا لا يمكن ان يغيب عن بال متخذ القرار في طهران وهو يحسب لنفسه كل الاحتمالات التي يطرحها هذا الموقف التفاوضي الذي لن يقبل بحال ان يكون وحده الطرف الخاسر فيه، ولهذا فانه سيقاوم ولن يستسلم مهما طال امد الحصار الامريكي له بالعقوبات او بغيرها....
تبقي اسرائيل التي تعلم اكثر من غيرها مدي المخاطر الانتحارية الفظيعة التي سوف يجلبها عليها التجاؤها الي الخيار العسكري في ردها علي التهديد النووي الايراني لها علي نحو ما تبالغ في زعمه ولا تكف عن ترديده وتحاول ان تملا العالم به . ونقصد الاخطار الهائلة التي يمكن ان تتعرض لها في غياب التزام امريكي مسبق بدعمها والوقوف الي جانبها في اي حرب محتملة تخوضها ضد ايران اذا ما قررت قصف منشآتها النووية بقرار منفرد منها .. ولهذا فان خياراتها هي الاخري تبدو محدودة وضيقة للغاية ، وهي تستعيض عنها الآن بالحرب النفسية التي تروج لها لترهيب ايران وردعها ، والتي لا اعتقد انها ستغير موقف ايران مما يجري باي شكل من الاشكال...فرد ايران علي اسرائيل اذا ما خاطرت بشن حرب عليها بضرب مفاعلاتها النووية قد يكون موجعا بدرجة لا تحتمل...وهو ما لا يمكن ان يكون غائبا من حسابات اسرائيل لعواقب مثل هذا القرار المصيري العنيف.. وهذا هو ما يجعلها تتردد وتتلكأ في تنفيذها لتهديدها...
وفي النهاية نقول ان مفاوضات فيينا تكاد تكون محصورة باكملها بين ايران والولايات المتحدة ، واما باقي الاطراف المشاركين في هذه العملية التفاوضية فانه لا تاثير يذكر لمواقفهم علي ما يجري هناك باعتبار ان من انسحب من اتفاق ٢٠١٥ النووي مع ايران ، وهو الطرف الامريكي ،هو من تقع عليه مسئولية اصلاح ما افسده وان يدفع اكثر من غيره الثمن وان يتحمل عواقب قراره... ونبقي في انتظار ما سوف تاتي به الايام القادمة وان كانت صورة ما يجري من الوضوح بما يكفي للحكم عليها بلا صدمات او مفاجآت غير متوقعة.
المصدر : صفحة ا.د.اسماعيل صبرى مقلد/استاذالعلوم السياسية بجامعة اسيوط