"انت ابن مين في مصر"!!
سؤال وجيه، مغزاه عميق، حمال أوجه، ولكن عم شديد منادي السيارات لم يقصد سوى إبداء الاستنكار والاحتجاج وربما بعض السخرية، حين أصر ذلك الشاب النحيف أن يركن سيارته في الموضع المخصص لقرني باشا أمام العمارة، وكان صوت عم شديد العالي لا يتناسب مع فقر الدم الذي يعانيه، فأثار بعض المارة الذين وقفوا يستطلعون ما يدور، كان الطقس قيظ، مثلما هو معتاد في منتصف أغسطس، والجميع بتصببون عرقا، ويتنفسون شياطا ودخانا ..
الحي نفسه راقي أو كان كذلك قبل سنوات، والآن يغمغم عم شديد بقرف: "المنطقة لمت من يسوى ومن لا يسوى!!"، مصوبا عينيه المحفورتين خلف عظام الوجنتين البارزتين إلى عيني الشاب الذي كان قد انتهى من ركن سيارته وعلى وشك النزول منها.
اندفع إليه عم شديد كي يحجزه، مهددا بالويل والثبور وعظائم الأمور، مكررا تساؤله وقد تناثر رذاذ لعابه في وجه الشاب: "انت ابن مين في مصر؟!"، وعندما تبين له أن الشاب غير عابئ، أضاف "أنت عارف من صاحب هذا المكان؟"، همس الشاب وهو يغلق باب سيارته: "الحكومة!!"، ولكن عم شديد يعرف أن قرني باشا ليس فقط صاحب المكان بل هو صاحب العمارة التي تشمخ بأدوارها العشرين فوق المكان، وهو رجل واصل ومؤذي، وإذا وجد سيارة تشغل موضعه فإنه سوف يعاقب عم شديد بل قد يضربه وينعل سنسفيل جدوده ويقطع راتبه، بل وسبق له أن قام بتحطيم زجاج سيارة وضرب صاحبها علقة مبرحة، وعندما وصلت الشرطة انتهى الموضوع بوضع صاحب السيارة في التخشيبة واضطر في النهاية للاعتذار لقرني باشا أمام كل الشارع...
حاول أحد المارة – من أبناء الحلال- أن يتوسط، فقال لعم شديد:
- هو المكان كان مكتوب عليه اسم صاحبه؟
فالتفت إليه عم شديد بغضب شديد صائحا:
- وحياة امك خليك في حالك!!
ويبدو أن الرجل الطيب لم يشأ أن يهين نفسه، فقرر ان يكون في حاله، ومضي في حال سبيله هازاً رأسه وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، بينما أمسك عم شديد بتلابيب الشاب حتى يمنعه من الحركة، ولدهشته لم يقاوم الشاب بل وقف مستسلماً وهو يبتسم.
في أثناء ذلك مرت سيدة بدينة ومعها بناتها، وساءها المنظر، فوقفت وقالت لعم شديد:
- ياراجل .. حرام عليك، دا في عمر ولادك!!
فزجرها عم شديد قائلا بغضب:
- وانت مال اهلك؟!
فكشرت السيدة عن أنيابها وقالت متقدمة إليه:
- أما انك قليل الأدب صحيح!
ثم انحنت كي تخلع حذاءها، وبناتها يحاولن السيطرة عليها ومنعها، بينما ترك عم شديد الشاب والتفت إليها متأهبا للعراك، حينذاك تحرك الشاب للابتعاد عن المكان، فعاد عم شديد قافزاً إليه وأحاطه بكلتا ذراعيه:
- علي الطلاق لن تتحرك من هنا إلا على جثتي!!
ولدهشته مرة أخرى لم يقاوم الشاب، وظل على ابتسامته الهادئة دون أن ينطق بكلمة واحدة، لدرجة أن عم شديد ارتاب في اتزان عقل الشاب، ولكن ثقة الشاب الواضحة جعلته يخشى أن يكون ذا حيثية، فقاسه بعينيه، وقاس سيارته القديمة المتهالكة، وتأكد أنه غير ذي قيمة كبيرة، فشدد ذراعيه المحيطين به ليقيد حركته.
أحد المارة – من أبناء الحلال- تدخل قائلا:
- يا بني خذ سيارتك لمكان آخر .. الدنيا واسعة..
هز عم شديد رأسه مؤمناً، وقال معلقاً وهو ينظر بقرف الشاب:
- ناس غاوية مشاكل!!
فتشجع الرجل، خاصة مع السلبية الواضحة للشاب، واستطرد ببعض الخشونة:
- شباب آخر زمن .. هذا الرجل الغلبان في سن والدك!
ولم تكن المرأة البدينة قد ابتعدت، ورغم أن بناتها وقفن حولها ليمنعوها من التقدم، إلا أنها قالت:
- رجل عجوز مخرف ابن كلب!
فأدار عم شديد رأسه إليها صارخا:
- يا ولية .. احترمي نفسك أحسن لك!
لكنها واصلت شتائمها رغم رجاء بناتها لها أن ينصرفن، واشتبكت مع الرجل الطيب الذي تدخل لحل المشكلة، وتزايد الزحام بشكل كبير، وانقسم المتزاحمون ما بين مؤيد لموقف الشاب، ومدافع عن موقف عم شديد..
وفي النهاية اقترب أحد جنود الشرطة ليتفرج، فناداه البعض كي يتدخل .. كان شاباً تبدو من هيئته وكلماته أنه قروي بسيط، ولكنه على أية حال لديه سلطة الحكومة، وأفسح له المتزاحمون كل يصل إلى المكان الذي يحتضن فيه عم شديد الشاب المبتسم..
قال الجندي:
- ما هي العبارة؟
فأوضح له عم شديد العبارة دون أن ينسى أن يشير إلى العلاقة الوطيدة التي تربط قرني باشا بمأمور القسم القريب، فأجفل الجندي وتوجه إلى الشاب قائلا:
- أليس هناك احترام للقوانين واللوائح؟ .. قلة أدب صحيح .. اتفضل يا أفندي خذ سيارتك اركنها في مكان آخر...
قال الشاب دون أن تفارقه ابتسامته:
- ليس هناك أي مكان .. أنا أدور في الشوارع منذ ساعة كي أجد مكانا بلا فائدة.
تأمل الجندي حوله، فوجد الجميع ينظرون إليه في انتظار قراره، فالتفت إلى الشاب مرة أخرى معنفاً :
- ولم تجد مكانا غير المكان المخصص لقرني باشا!!
فقال له الشاب:
- ومن هو قرني باشا؟؟ .. أيكون ابن سعد باشا زغلول!!
ورغم أن الجندي لا يعرف من هو سعد زغلول، إلا أنه شعر بلهجة السخرية في سؤال الشاب، فازداد خشونة ومد ذراعه الأيمن قابضا على كتف الشاب، وهو يقول:
- الظاهر أنك مشاغب ولا تريد ليومك أن يعدي على خير!
علق الرجل الطيب الذي سبق له التدخل :
- يا حضرة الصول خذه إلى القسم .. هذا الولد يبدو إرهابياً ...!!
فوجئوا جميعا بالشاب ينفجر ضاحكا، وهو يقول بصوت عال:
- فعلا ... أنا أسامة بن لادن!!
شعرت السيدة البدينة أن ذلك الشاب لا يستحق ما تحملته من إهانة بسببه، فقالت له محتجة:
- انت الظاهر خنفس لم تعرف من أهلك جنس التربية!!
فازدادت قهقهة الشاب، وبدأ الناس يدقون أكفهم عجباً، بينما ازداد عم شديد ارتياحا، والجندي يجذب الشاب بقوة قائلا:
- سوف يندم أبوك على أنه خلفك!!
فقال الشاب ببساطة وهو يحاول السيطرة على عاصفة الضحك التي خنقته:
- والدي هو وزير الداخلية!!
فسأله الجندي مرة أخرى، وأجاب الشاب بنفس البساطة مبدياً استعداده أن يبرز لهم بطاقته الشخصية التي تؤكد ذلك، وهنا تراخت ذراع الجندي القابضة على كتفه، وكذلك سحب عم شديد ذراعيه من حوله وكأنما لدغته عقربة..
وران صمت لبرهة، حتى قال الرجل الطيب الذي سبق له التدخل:
- المسألة بسيطة يا اسيادنا .. لن تنهد الدنيا إذا ركن الشاب سيارته لبعض الوقت ..
بينما التفت الجندي إلى عم شديد قائلا بتأنيب:
- هل تملك الشارع يا رجل؟ .. أمر غريبّ.. كل بني آدم له الحق في شارع الحكومة ... وإذا فتحت فمك سوف أجرجرك للقسم .. حاجة تقرف..
كان عم شديد يدور بعينيه بين الشاب والجندي، ثم يتأمل للسيارة المتهالكة، وقد غمره العرق الغزير، سأل الشاب بصوت لاهث:
- صحيح .. انت ابن الباشا وزير الداخلية؟!
فهز الشاب رأسه، ومد يده إلى جيبه قائلا:
- هل أخرج لك البطاقة كي تصدق؟
أتى صوت السيدة البدينة من خلف المتزاحمين قائلة:
- قلت منذ البداية أن ذلك لا يصح، وأن ذلك الرجل العجوز مخرف وابن كلب!
نظر إليها عم شديد من فوق أكتاف الناس دون أن يعلق، لكنه ابتعد خطوة عن الشاب حائرا، وقال في استعطاف:
- لكن يا باشا لا يرضيك أن يؤذيني قرني باشا..
فتدخل الجندي بصوت قاطع:
- قرني باشا مين، يلعن أبوك على أبوه!
ثم التفت إلى الشاب قائلا بصوت ناعم:
- اتفضل يا باشا لمصلحتك .. وسوف أحرس السيارة حتى تعود..
وتأهب الشاب للمغادرة بالفعل، إلا أن عم شديد الحائر رجاه أن يترك معه البطاقة الشخصية حتى إذا أتى قرني باشا أظهرها له كي يتقي غضبه، فوضع الشاب يده في جيبه ثم قال أنه نسي البطاقة في المنزل، وتحرك مبتعدا والناس تفسح له الطريق، وعندما أصبح على مسافة مائة متر من مركز الزحام، وقف ثم استدار قائلا بصوت عال وهو يضحك:
- أبي ليس وزير الداخلية .. أنا ابن الشعب...
ثم طفق يعدو، واندفع الجميع خلفه يلعنون ويشتمون....
( قصة قصيرة من كتاب " حكايات العبيد " الذي صدر عام 2010)