JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
أحدث المواضيع
الصفحة الرئيسية

مجدي أبو السعود يكتب : بروفايل .. أحمد محمد محمود إبراهيم


نحيلا وشاحبا مثلي ومثل أبناء الفقراء الآتين من أرياف المدينة نناطح أولاد الأثرياء بعقولنا فى فصل المتفوقين في مدرسة الملك الكامل الثانوية بنين بالمنصورة في الصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، كان ثالثنا ( أنا ووجدي ) فى الدكة الكائنة في آخر الفصل خلال أعوامنا الثلاث فى مدرسة " الملك الكامل الثانوية "منذ نحو أربعين عاما، كان صموتا ساهما لا يبوح بأسراره ونادرا ما يشرق وجهه بابتسامة حين يصر أحدهم على استنطاقه، كان كثيرا ما يخلو إلى نفسه لحل مسائل رياضية شائكة تستعصي علينا، ويفاجؤنا بحلها، كان مدرسو فصلنا يعتمدون على قدراتنا فلا يستفيضون فى شرح الدروس مثلما يفعلون فى بقية الفصول العادية، ويشغلوننا بأنشطة أخرى مثل عمل مجلة مطبوعة يكتب فيها من لديه منا هواية الكتابة وكان زملاؤنا أولاد أثرياء المدينة يوفرون علينا مهمة طباعتها على حسابهم ، ويرسم فيها من كان يحب الرسم مثل " وجدي " الفنان الفطري، والذي كان بارعا فى رسم البورتريهات مستعينا  بقلمه الرصاص فقط والذى ركب رأسه مثل " أحمد محمد محمود إبراهيم " ومثلي حين ظهرت نتيجة الثانوية العامة ونجحنا جميعنا بل فصل المتفوقين كله بتفوق وظهر من بيننا من حقق مركزا على مستوى الجمهورية وهو الآن يعمل أستاذا للأمراض الجلدية في كلية طب المنصورة في حين أنني في إبتدائي حققت مركزا يفوقه على مستوى المحافظة في أواخر السبعينيات، المهم أصر " وجدي " ثالث دكتنا أنا وأحمد محمد محمود إبراهيم ، رغم موهبته الفنية الفذة على دخول كلية " الصيدلة " وأصررت أنا من كان يكتب فى مجلة الفصل ومهتما بقراءاتي الحرة الأدبية في أغلبها على دخول كلية " الطب " وأصر " أحمد " عبقري الرياضيات على دخول كلية الطب أيضا، وحين فوجئت به بجواري على البنش في أول أيام دراستنا بكلية طب المنصورة في منتصف الثمانينيات، فى مدرجات الكلية نظر كلانا إلى الآخر بدهشة!

 لم يلم كلانا الآخر على وجوده غير المنطقي فى هذا المكان! بل تعاملنا بتلقائية سويا وكأننا لا زلنا فى ثانوى ونسينا " وجدي " رغم أنه كان يدرس بكلية الصيدلة الملاصقة لكلية الطب!! ولا زلنا كما كنا- أنا وأحمد- الآتيين من قريتين مختلفتين مجاورتين لمدينة المنصورة فقراء شاحبين، وسوء التغذية باد على وجوهنا، لكن ثمة شىء إضافي غلف ملامح " أحمد ": مزيج من الحزن والندم والحيرة والتوهان، حتى ابتسامات مجاملاته تقلصت إلى أبعد الحدود والأكثر غرابة أنه لم يعد يهتم بحضور المحاضرات،، سرنا سويا بعيدا عن جو الكلية المقبض فى مساحات النجيل الخضراء الفاصلة الممتدة مابين كليات الجامعة قبل أن تدهمها البنايات الإسمنتية الآن ، سرنا صامتين -باتجاه كلية الهندسة-  لفترة وكأننا أخرسان إلى أن بادرته بسؤال مفاجيء: مالك ؟! رد بتلقائية بتساؤل آخر : وإنت مالك إنت كمان؟! وكأنه نكأ نفس الجرح الذى حاولت أنا أن أنكأه فيه: احنا هنا فى الكلية دي ليه؟!

 رددت بتلعثم : أنا أنا لاشىء خلينا فى   مشكلتك إنت الأول ، مالك؟! هز رأسه بيأس وقال: مش عارف! قلت : إزاي مش عارف واللا بتدعي إنك مش عارف؟!، شرد لبرهة ثم قال وكأنه يستدعى تاريخ الصدمة الأولى لنا في الكلية: حين دخلت مشرحة الكلية ورأيت الجثث ومشارط الأساتذة والطلبة تعيث فيها وحين ملأت أنفي رائحة الفورمالين الخانقة العطنة مادت الأرض من تحت أقدامي وسألت نفسي لحظتها مغتاظا: ماالذي أتى بك إلى هذا المكان أيها الغبي الأرعن؟! وصمت وصمت أنا أيضا طويلا وعدنا كما كنا أخرسين، فيما كانت رءوسنا لا تتوقف عن الدوران، قلت وكأنني أعزى نفسى: لعلها صدمة البداية وغدا تتعود، هل تفعل يارجل مثل البنات الرهيفات حين وقع بعضهن ولم يحتملن رؤية الجثث المهترئة من أثر المشارط؟! وتقمصت صورة الحكيم قائلا بصوت أجش مفتعل: اكبر ياولد وتحمل صعوبة البدايات!

 رد قائلا: المسألة مش مسألة خوف بل هى مسألة نفسية إنسانية بحتة، قلت: ودون التشريح والطب والأطباء فسيهلك البشر، رد بتلقائية وكأنه يخاطب نفسه: وأنا مالي، أنا إيه اللي جابني هنا؟! بصراحة شديدة وجودي هنا خطأ قاتل ارتكبته ويجب أن أصححه فلن أستطيع التواصل،، قلت: وما العمل؟! رد بسرعة: سأنقل أوراقي إلى كلية أخرى ولتكن العلوم،، ومن اليوم التالى كان ينهى إجراءات تحويله، بعدها بأسبوعين أتانى حزينا ومهموما أكثر، قلت : مالك تاني؟!

 ما أعرفه أن فى " العلوم " فئران تجارب وليس جثث بشر مهترئة! رد قائلا: قرفت أيضا من هذه الكلية ومن تشريح الضفادع والفئران، وسأنقل أوراقى إلى كلية " التربية " وانتقل إليها بالفعل ولم تمض أيضا سوى أيام حتى جاءني يشكو من كل الكليات العملية وأن الحل لديه أن ينتقل بملفه إلى كلية نظرية ولتكن " التجارة " ،، وقبل أن يستطرد فى كلامه ذكرته بأننا على مشارف نهاية الفصل الجامعي الأول ورغم ذلك انتقل إلى كلية التجارة، ولعلمي بقدراته العقلية فلم أتفاجأ حينما علمت أنه كان على رأس قائمة الطلبة الناجحين وواصل تفوقه خلال أعوامه الباقية وانقطعت صلتي به تماما منذ ذلك الحين ، ولست أدرى أين هو فى زحام الحياة الآن ؟!       

author-img

أخبار التاسعه

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    الاسمبريد إلكترونيرسالة