تقديم
ستظل بعض الأشياء داخلنا مجرد فكرة تجبن عن الخروج ، لمجرد فكرة عالقة بالأذهان ، عن مجموعة أفكار تمنعنا من الخروج والتحليق ، ليخبو داخلنا حلم الخروج ..
**
الأوله بسم الله ..
العلاقة بين الحلم والواقع ، كالعلاقة بين السبابة والوسطى ..
فى إقترابهما ..
وافتراقهما ..
وإختلافاتهما ..
ورغم تجاوز الحلم عن الواقع فى التحليق ، سيظل إنطلاقهما من كف واحد ..
فالخروج حلم ، والمألوف واقع ..
ونحن دائما مانخرج عن المألوف للوصول للتحرر ..
ولكنا سرعان مانسن قوانين ، وبالتالى نألفها .. لنخرج عنها فيما بعد ..
حتى لايموت داخلنا حلم الخروج ..
**
اليوم الاول - الروح
وقت مضى ومازال هو راكناً يقلب فى رأيك كلمات لأستاذة ..
لم يعارضة ..
لم يوافقة ..
لم يسأل ..
لكنة تردد و أخذ يردد ..
- اللهم العن عصى التدريس ..
فكلما أدرك أن فرائسه ترتعد كلما جلس فى حضرة أحد أساتذته يلعن عصى التدريس .. كان يريد أن يسأل لكنه تردد ومانعته نفسة ..
قام على فوره متجهاً صوب معلمه فوجده جالساً لشاب يسأل ..
- اهوى المعرفة ياشيخى ..
- لامعرفة لمن تتملكه عواطفه كى يعرف ..
- لما وقد أحب ..
- هذا لأنها هوى ، وقد تصبح هى الطاقة المحركة لأفعاله فتمتلكه ، ليصبح أشباه نفسِ ..
اقترب يحى منهما وفى تردد قال ..
- والأصوب ياشيخنا ..
- القوى من أمسك بها ، يحركها كيفما شاء ، لا من أمسكت به .. والا وقع فى الإنفلات .. والإنفلات هوة سحيقة .. كأنما دوائر هى .. كلما لامست خصرها أوقعتك فى دوائر أكبر ..
- ولكنى قد تمتلكنى عواطفى فى المعرفة ..
- لاتعطى المعارف الا لمن قوى عليها ، لا لمن قويت عليه .. والقوى من قوى على نفسه ..
بسط الشيخ ردائه فجلس يحى على طرفه البعيد وقال ..
- لدى سؤال أستاذى ..
- تفضل
- هل الأصل هو الإنفلات أم القوامة ؟
- الأصل هو الإتزان ، لا الإهتزاز .. والإنفلات هزة .. فالقوامة إذن أصل الأشياء ، لأنها الأثبت ، وكلما أدركنا كيف نُقَوْم الإنفلات كلما إقتربنا من الأصل ..
زحف يحى قليلا تجاه معلمه وقال ..
- لكن ياشيخنا الوصول للثبات يأتى بعد هزة .. إن الأشياء تأتى مهتزة ، ثم يأتى الثبات بعد ذلك ، لأن الفطرة هى السؤال لا التصديق .. والسؤال إهتزاز .. والتصديق ثبات ، وهذا البناء للأشياء من شأنه تثبيت العقل ، وإستواء الروح .. والأقوم من فعل الأشياء وفق أصلها ..
عاد معلمه الى متكئه ونظر ليحى مبتسما ..
- غالبتنى حتى غلبتني أيها الشاب ..
سارت همهمات بين الحاضرين ، وأعينهم تعلقت بمعلمهم مترددة فقال ..
- العاقل من وقف على أخطأ نفسه وإن مانعته ..
- أو هل تمانعنا أنفسنا ياشيخنا ..
- وأى ممانعة .. النفس تمانعنا وتغرينا بأننا الأصوب .. فالنفس ذات والروح ذاتٌ أخرى ، والعقل دائم التأرجح فيما بينهما .. فالنفس أصل الهوى ، والروح أصل الحق .. والعقل يركن الى أحدهما فيثبت ، او لايثبت .. ويظل هائما فى بحته عن حقيقة الأشياء .. فالنفس الوانها زاهيةً تغرينا ، والروح ألوانها دافئةً تأوينا ، والحقيقة الوانها من أصل الأشياء تروينا ، وقد تختفى .. فالنفس دائمة التمويه على حقيقة الأشياء فلايراها العقل .. ومن الحق الوقوف على أخطأ نفسك وإن مانعتك او إمتنعت ..
ومضى سعيداً .. فقد ألقى بعصى التدريس الى الهاوية ..
اليوم التانى - النفس ..
الإحساس بأنك ناقشت أستاذك وكان الحق الى جانبك قد يصيبك ببعض التباهى بالنفس ..
كان يحى يجرى بالقلم على اوراقه فى أى وقت يريده هو ولم يكن يعلم .. وحين أراد أن يكمل بحثه كما أراد ، حاوره المعنى .. فخرج الى الشارع كى يأتى بلفافات تبغ باتت تخنقه .. فقابله شخص ذو عاهة تفترش بضاعته الرصيف وبها طلبه ، لكنه إستاء الرجل ومانعته نفسه وتعالت .. فتردد .. ومضى .. لكن شيئا ما أوقفه وعاد ليكون سبباً فى رزقة .. لأن ذلك يسعده .. ثم مضى سعيداً منتشياً ..
فحدثة ربه أن عاوده كى تستزيد .. فإشترى بعضا من المجلات والحلوى ، وعاد الى خلوته لتنساب الكلمات ..
ثم نام مطمئناً ..
اليوم الثالث - الخلق ..
وكأنما هو درس من دروس المحيط ..
كلما إلتصقت بالأرض ، كلما صادمتك الموانع .. لتصبح حواسك أقل نقاءاً ..
الرؤية .. تحدها الجدران ..
السمع .. تصمه الضوضاء ..
اللمس .. غير حقيقى ، فالأتربة تعلو الأسطح لتصبح حائلا بينك وبين ماتلمسه ، ليصبح الملمس كاذب ..
وكلما صعدت لأعلى ، كلما وجدت النقاء ..
السمع صافِ ..
البصر معك لاحدود ..
والملمس صادق ..
والغرائز للوراء ، يكفيك القليل ..
ولتعرف إن مصدر النقاء فى الأعالى .. وكلما إبتعدت صادمتك الملوثات ..
صعد درج السلم وهو سابحاً فى تأملاته لشيخه وسؤال يراوده .. تُرى لماذا يهوى شيخنا جلوس السطح ..
- إنه النقاء ما أبحث عنه .. فكلما إرتفعت كلما وجدته ، فعلمته .. ووجدت نفسى .. هل تأملت السحب يوما ياولدى ..
لم يدرك يحى السؤال .. فكثيرا ماصادمته كلمات معلمه فأوقفته .. يرتج منها لكنها توخزه .. فتوقظه ليسأل ..
فلو تأمل السحب ، لوجدها متدرجة من شلة بيضاء الى قتامة سوداء ولعرف إن من إشتد سواده - هو ماأمتلى بالماء وإقترب من الارض - ويسمى مزون .. وكأنما الدنيا قد لوثته .. فسودته .. فأثقلته ، فحان السقوط ..
إبتسم يحى حتى سأله عارف ما سر ابتسامته فقال ..
- إن الله أحب أدم حباً كبيراً ..
- لما ؟ ..
- لأنه عندما عاقبه أنزله من الحياة العليا الى الحياة الدنيا .. والعقاب على قدر الحب ..
- وجهة نظر ..
مد عارف يده فإرتج يحى لكنه دفع بأوراقه لعارف وقلبه يرتجف وعيناه تعلقت بيد عارف وهو يقلب الاوراق ..
كان عارف يقرأ بعينين محايدتين لا لون لهما ..
كان يحى يأمل فى الأ يراجعه عارف فى أوراقه.. وأن يقبلها دون تعديل ..
شئ ما أوقف عارف عن مواصلة القرأة ،
شئ ما أربك يحى ..
- ايه اللى انت كاتبه ده ؟ .. ما إختص الله لنفسه من الصفات التى أعلمنا إياها من شئ ؟ .. كيف ؟ .. كيف تقول طالما الإنسان فى حاجه ، فهو دائما فى خلق .. ألم يختص الله لنفسه صفة الخالق .. او هل تشاركه صفاته ؟ ..
- ألم يقل جل علاه .. " إنى جاعلٌ فى الأرضِ خليفه " .. أو هل يخلف فى الأرض من لايقوى عليها .. وكيف يمد الله خليفته إلا من ذاته .. فقوة الخليفه من قوة من أخلفه ..
- كيف يكون إذن فى الخلق ؟ ..
- إن الله خلقنا وخلق فينا صفات كثيرة ، ودعانا للبحث عن هذه الصفات فينا حتى نحيط به علماً ، وأمرنا بالبحث .. بالنظر والسمع والتفقه ، وكل هذا من مسالك البحث .. إننا ندرك صفات الله من إدركنا لهذه الصفات فينا .. وكلما بحثنا ، وصلنا .. كى نحيط به علماً .. ولكى ندرك قوتنا التى سنقوى بها فى الأرض .. فهو مصدر كل الصفات ونحن شزراته .. والخلق يبدء بفكرة .. وكلٌ حسب إجتهادات وصوله .. قال تعالى " تبارك الله أحسن الخالقين " .. وكلمة الخالقين تعطى التعدد .. ولكن ليس كمثله شيئ ..
- انت تمشى وسط أشواك غير منتعلاً .. وكلما أدركت كلما كان حسابك خاص وكل حسب إدراكه ..
- أو هل ترى أنى قد تجاوزت ؟ ..
- أنت وماتصبو إليه ، فهذا شأنك مع من أخلفك .. فالظاهر للظاهر ، والباطن يعلمه الله .. فعلاقتك بالله علاقة خاصة لايعلمها الا طرفاها .. الله يعلمها جميعها .. وأنت تعلم نصفها الخاص بك فقط .. وأنا لم أشق عما فى صدرك ..
مضى يحى فى شوارع القاهره ليلا يتساءل
- ترى هل تجاوزت ..؟ ..
فقد دفعنى العشق فتساءلت ..
وداومت ..
حتى تخليت عن عوالقى فدخلت ..
ورأيت ..
وتخيلت أنى بهذا قد وصلت ..
ولم أخرج بغير مادخلت ..
وهو السؤال ..
حتى بت معتقداً أننا لم نوجد فى هذه الدنيا إلا لنبحث ، حتى يظل وتراً مشدوداً بينى وبين الرغبة فى المعرفة ..
الرغبة فى الحياة ..
وتراً مشدوداً بينى وبين الاله ..
حتى أرى الوضوح ..
أدركه ..
قادراً على الملامسة ..
ولامست ..
وتتملكنى القدرة .. لكن سؤالاً دائما يقف امامه .. او هل سيسعد بنشوة الوصول ..
فهى النشوة المطلقة التى كان يسعى اليها يحى فى كل مساراته و تخبطاته وانجذاباته لإتجاهات متباينه تبدو للظاهر متباعده لكنه احياناً يشعر انها الطريق ..