JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
أحدث المواضيع
الصفحة الرئيسية

السفير معصوم مرزوق يكتب : البطل


مرسي الحلواني صديق من أصدقاء الطفولة ، أتذكره ، وليس للشيخ سوي إستدعاء أيام بعيدة ، كان مرسي علي الدوام نشيطاً في كل شيئ عدا الدرس والتحصيل ، يقفز فوق سور المدرسة ، يخطف الساندويتشات من الجميع ، يمزق كرارسينا وكتبنا ، يشتمنا بكلمات كانت بالنسبة لنا إكتشافات جديدة في اللغة ، ولكنه رغم ذلك كان محل شغفنا جميعاً ، فقد كان يدخل بنا في حكاياته التي لا تنتهي إلي مدن ساحرة غامضة جميلة ، ولا زلت أذكر حكاية بالذات رواها لنا وهو يطلب أن يدفع كل منا تعريفة ( نصف قرش ) كي يستكملها إلي نهايتها …

أباه محروس الحلواني قرر أن ينضم إلي الفدائيين ، فقام بسرقة بندقية عسكري الدرك ، وركب حصاناً أبيض حتي دخل إلي فلسطين ، وقام بقتل بن جوريون وموشي دايان ، ثم عاد في المساء كي يلحق بوجبة العشاء الشهية التي أعدتها أم مرسي : " ملوخية وجوز فراخ شامورت وحلي ببلح الشام ، ثم حبس بكرسي معسل ، وبعد ذلك قام مع زوجته بالواجب !! …

كانت تفاصيل هذه الحكاية كثيرة لا أتذكرها الآن ، ولكن مرسي كان يتعمد الإطالة والمط كي يضمن الإثارة ومعها قروشنا القليلة علي مدي أيام متتالية ، وكنا ندفع صاغرين ، بل راضين وراغبين ، فقد كان الواحد منا يأتي في الصباح وقد ملأه الشوق للإستماع إلي باقي حلقات الحكاية ، وكم من مرة سأله أحدنا أن يذكر لنا نهاية الحكاية حتي نطمأن علي أبيه ، رغم أننا كنا نري عم محروس الحلواني حياً يرزق مثل الفحل ، ولكن أسلوب مرسي كان يوحي بأن نهاية مأساوية سوف تلحق بأبيه ، أو هكذا كنا نشعر ، فقد كان يصور لنا الأعداء ( بن جوريون وموشي دايان ) وكأنهما وحوش أسطورية لها ذيول ، عيونها تطق بالشرر ، ينتظران أباه في كل ناصية كي يتصيدانه ، ولكنه في كل مرة يفلت ببراعته وبقوة السحر الذي يملكه ، لقد كان بن جوريون في حكاية مرسي مثل القط ذي السبعة أرواح ، ففي كل مرة ينجح عم محروس في قتل بن جوريون كي يكتشف أنه عاد مرة أخري للحياة ، وبالطبع كان عبثاً أن نسأل مرسي عن إمكانية حدوث ذلك لإنسان ، لأنه سوف يطلق علينا لسانه السليط ، وربما قبضته التي لا ترحم ، وربما لأننا كنا بشكل ما نستمتع بإمكانية قتل ذلك العدو الرهيب عدة مرات ..

لقد ألتصقت هذه الحكاية في خيالي لسبب آخر ، وهو أننا في نهاية العام وأثناء إختبارات القبول الإعدادي ، كان الموضوع الرئيسي للتعبير في إختبار اللغة العربية هو كتابة قصة عن فدائي مصري قام بعملية في إسرائيل ، وبالطبع لم أجد أفضل من حكاية مرسي ، وظللت أكتبها حتي ضاع أغلب الوقت ، ولم أتمكن من إجابة باقي الأسئلة سوي بصعوبة نتيجة لقرب إنتهاء توقيت الإمتحان ، وبالتالي كانت درجتي في مادة اللغة العربية – وعلي عكس توقعي وتوقع الكثيرين – أقل درجاتي في هذه الإختبارات ، رغم أنني كنت شديد التفوق في اللغة العربية ..

لقد رسب مرسي في إمتحانات ذلك العام والعام التالي له ، وتعثر في مساره الدراسي حتي تمكن من الحصول علي الشهادة الإعدادية بصعوبة ، ثم تطوع بعد ذلك في الجيش ، وسرعان ما تزوج وأنجبت له زوجته أربعة أطفال .. كان الأول بين رفاق الطفولة في الدخول إلي الحياة العملية والزواج ، ورغم أن ظروفه وظروفنا باعدت بيننا ، إلا أنني ظللت علي إتصال متقطع به ، وذات مرة أصر علي دعوتي للغذاء في منزله ، كان شديد الفخر بالشقة الصغيرة التي استأجرها في مبني قديم بجوار خط السكك الحديدية ، وهناك تعرفت لأول مرة علي زوجتـــه " زوبه " التي بدت طفلة كبيرة إلي جوار باقي أطفالها ، وكان يتحدث إليها بخشونته المعتادة ، وكلماته الإباحية المكشوفة دون خجل ، وهي تنظر إليه بإعجاب ممزوج بعتاب خفيف ، وظل طول الوقت يحدثني عن أعماله الخطيرة في الجبهة ضمن قوات المظلات ، وكيف قام بالسباحة طول الليل حتي وصل إلي جنوب سيناء ، ونفذ عملية قام فيها بقتل عشرة جنود إسرائيليين وخطف أثنين منهما ، وعاد بهما سباحة مرة أخري إلي خليج السويس … كانت حرب الإستنزاف خلال هذه الأيام علي أشدها ، ولذلك كنت أميل إلي تصديقه رغم قناعتي بأنه يبالغ بعض الشيئ …

وفي إحتفال أقامته إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة في نادي ضباط الجلاء لتوزيع جوائز القصة القصيرة ، والتي حصلت فيها علي الجائزة الأولي لأفضل قصة عن حرب أكتوبر ، سمعت صوت المذيع الداخلي ينادي علي أسماء بعض أرامل الشهداء لإستلام هدايا خاصة في هذه المناسبة ، " السيدة حرم الرقيب الشهيد / مرسي محروس الحلواني " .. 

وكأن صاعقة ضربتني في نفس اللحظة ، التفت بسرعة كي أرقبها وهي تتقدم إلي المنصة الرئيسية ، كانت تبدو سيدة عجوز انحني ظهرها ، وهي تسير مرتبكة حائرة …

بعد انتهاء الحفل توجهت إليها ، ذكرتها بنفسي ، أدمعت عيناها ثم انتحبت ، كان ابنها الأكبر محروس معها ، جلسنا في حديقة النادي ، علمت منها أن مرسي أتصل بها بعد انتهاء الحرب ، قال لها أنه موجود في مدينة السويس ضمن كتيبة الشئون الإدارية التي تحركت من الروبيكي إلي السويس مع بعض الإمدادات ، وأنه سيعود في اليوم التالي وربما تمكن من الحصول علي إجازة قصيرة ، وطلب منها إعداد " فرختي شامورت ، وصحن ملوخية ، وبلح الشام " ، ولكنه لم يأت ، وعلمت بعد ذلك أنه أستشهد عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف موقعه في مدينة السويس ..

تحدثت معي عن صعوبة الحياة وضآلة مبلغ المعاش الذي تحصل عليه ، قالت لي أنها اضطرت لإخراج ابنها الأكبر محروس من المدرسة كي يعمل في ورشة نجارة ويتعلم صنعة تنفعه ويساعد في الإنفاق علي باقي أشقائه .. 

نظرت إلي محروس ، كان يحمل نفس ملامح أبيه ، وتحدثت معه بعض الوقت عن بطولة أبيه في معارك قوات المظلات أثناء حرب الإستنزاف ، ورويت له حكاية السباحة الطويلة في خليج السويس والعملية البطولية التي قام بها في جنوب سيناء ،فقال لي مندهشاً أن أباه لم يخدم أبداً في المظلات ، كما أنه يخاف من البحر ولا يعرف السباحة !! .. 

طلب مني محروس الصغير أن أروي له عن بعض بطولات قوات الصاعقة في الحرب ، فاستجبت له ، ورويت له بعض الأعمال القتالية ، في حين كانت عيناه تتسعان وهو ينصت بإهتمام ، وفجأة قال لي أن جده محروس رحمه الله كان أيضاً بطلاً ، وروي لي حكايته أثناء حرب 1948 ، عندما ركب حصانه الأبيض ، ودخل إلي تل أبيب ، وقام بقتل الأعداء ، ثم عاد كي يتناول طعام العشاء : " ملوخية وجوز فراخ شامورت وحلي ببلح الشام ، ثم حبس بكرسي معسل ، وبعد ذلك قام مع زوجته بالواجب " ، ولم أستطع أن أقاوم رغبتي في الضحك ، ونظرت إلي والدته " زوبة " التي كانت تنظر إلي إبنها بإعجاب …

في تلك الليلة عدت أفتش في أوراقي القديمة حتي عثرت علي الصورة الوحيدة التي أملكها لصديق الطفولة ، حيث أننا تبادلنا صورنا في نهاية عامنا الأخير في المدرسة الإبتدائية ، وكنا نتفنن في كتابة بعض العبارات علي ظهر كل صورة ، بعضها من موروثات المحفوظات الشعرية التي درسناها ، وبعضها الآخر تعبير صادق وبريئ عن الحب والشعور المبكر بالإفتقاد إلي الصديق .. كانت الصورة قد حالت نتيجة للتخزين الطويل ، ولكن ملامح وجهه الأسمر ذو التقاطيع الحادة ، وعيناه الواسعتين السوداوين وكأنهما تنظران بحدة إلي الأمام ، وأنفه الدقيق الصغير ، وهو يرتدي قميص أبيض بسيط .. وعلي ظهر الصورة وجدت الكلمات التي كتبها لي بخط ركيك وبأخطاء لغوية : " إلي أخي ورفيك الدرب الطويل .. تذكرني فأن الذكري تدك كالناقوص في علم النسيان .. إلي اللقاء في تل أبيب " …

مسحت دمعتي وأن أعيد النظر إلي ملامحه في الصورة ، واستجمع ذكريات تلك الأيام الدافقة الحماسية التي شكلت زمان طفولتنا .. تنهدت في أسي وأنا أهمس لنفسي : " لا زلت يا مرسي في إنتظار الذي لا يجيئ " …

author-img

أخبار التاسعه

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    الاسمبريد إلكترونيرسالة