يسري عبد الغني يكتب : سماح إدريس يرفض التطبيع حتى الرمق الأخير

 


عن عمر لم يتجاوز الستين عاماً، رحل يوم الخميس الموافق 25 نوفمبر 2021 الباحث والناشر اللبناني سماح إدريس ابن مؤسس مجلة (الآداب) اللبنانية الشهيرة، القاص والروائي والناشر سهيل إدريس، التي كانت منذ خمسينيات القرن العشرين واحدة من أشهر وأهم المجلات الأدبية، وديواناً للأدب في سوريا ولبنان وفي الوطن العربي، احتضنت خلال مسيرتها أهم الأدباء السوريين في عز تألق إنتاجهم، كنزار قباني وعبد السلام العجيلي وزكريا تامر وحنامينة ومطاع الصفدي وبديع حقي وسليمان العيسى وممدوح عدوان وعبد العزيز هلال وعلي كنعان وهاني الراهب وخليل الخوري وعلي الجندي وسواهم ممن وجدوا على صفحاتها وفي دار النشر التابعة لها (دار الآداب) منبرا للحضور والتسويق والانتشار. 

ويبدو أن موقف سماح إدريس الثابت من التطبيع مع إسرائيل واستغلال محور الاتجار بالمقاومة هذا الموقف   دفع  البعض لمحاولة طمس مواقفه ونذكر  العدد الخاص الذي أصدره من مجلة (الآداب) في بداية انطلاق الثورة السورية عام 2011 يشهد بأن الرجل كان مؤيدا للتغيير في سوريا، مؤمنا أن لا مقاومة لأي عدوان خارجي من دون إنسان حر موفور الكرامة في وطنه.  

تولى سماح إدريس المولود في بيروت عام 1961 رئاسة تحرير (الآداب)  في نسختها الورقية منذ عام (1922) وقبل وفاة والده المؤسس عام 2008، وحتى عام (2012) حيث سعى لاستمرار المجلة ذات الحضور الثقافي التاريخي خلال عقود صعبة، كان قد تراجع فيها دور المجلات الثقافية ومردودها المالي، وأثرها على الساحة العربية وانخفضت مبيعاتها، وأنهكتها رقابة الأنظمة المستبدة،   فسعى لاستمرارها إلكترونيا منذ عام 2015 وحتى تموز/ يوليو من العام الجاري، حين صدر العدد الأخير منها.

  لقد تمكن سماح إدريس بإيمانه العميق  أن يصارع من أجل بقاء (الآداب) حية،  ومعه والدته المترجمة اللبنانية (عايدة مطرجي) وشقيقته (رنا)، وتواصل مع الأجيال الشابة التي كانت ترسل نصوصها الأدبية والنقدية إلى المجلة باهتمام ومودة بعيدا عن أية محسوبيات أو وصاية، وأذكر أنني نشرت في (الآداب)  في ثمانينيات  القرن العشرين... وطالما استقبلت المجلة تعليقاتي نقاشاتي و كتاباتي بمودة، واهتمام وعمق..   

لقد كان هم سماح أدريس  أن يثبت حضور المجلة العريقة واستمرارها دون أن يأمل باستعادة أمجادها التي بنتها في زمن مختلف عن زمن نهايات القرن العشرين وانهياراته الثقافية المؤلمة.. لكن أفضل ما أسداه لقراء العربية، هو رعاية مشروع نشر أرشيفها كاملا على الموقع الإلكتروني لدار الآداب، فقدم للأجيال ثروة لا تقدر بزمن من النصوص والمقالات والأبحاث والسجالات التي عكست حيوية الساحة الثقافية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. 

وكان سماح إدريس  قد حصل على بكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الأمريكية قبل أن يتجه إلى دراسة الأدب العربي ويحصل على  الماجستير في الأدب العربي من الجامعة نفسها في بحث (رئيف خوري وتراث العرب) ثم ينال شهادة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا الأميركيّة عام 1991. ولإدريس العديد من الدراسات والمقالات والكتب المترجمة، كما له كتابان في النقد الأدبي، وأربع روايات للناشئة، ومجموعة من قصص الأطفال.

لسماح إدريس العديد من الدراسات النقدية، وكانت باكورة مؤلفاته كتاب (رئيف خوري وتراث العرب) الذي نشره كأول كتبه النقدية، وصدر عن دار الآداب في بيروت عام 1986  ثم (المثقف العربي والسلطة: روايات التجربة الناصرية) وقد صدر عن دار الآداب في بيروت عام 1991 وعالج في هذه الدراسة أكثر من عشرين رواية كتبها كل من نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم ويحيى حقي ويوسف السباعي وغالب هلسا وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني، محللاً علاقة الشكل واللغة بالمضمون السياسي للعمل الروائي خلال التجربة الناصرية. 

فضلا عن ترجمته (بالاشتراك مع أيمن  حداد)  لكتاب (صناعة الهولوكوست، تأملات في استغلال المعاناة اليهودية) للبروفيسور الأمريكي نورمان فنكلستين، والذي أصدرته دار الآداب عام (2001) وشرح استخدام المحرقة النازية لليهود كسلاح أيديولوجي لتحويل إسرائيل إلى ضحية، حسب المؤلف. 

كما اهتم سماح إدريس بالكتابة للأطفال وأصدر سبعة كتب في مجال أدب الطفل (الموزة- الكل مشغول- أم جديدة-  تحت السرير-  قصة الكوسى- البنت الشقراء؛- مشمش)، وأربع روايات للفتيات والفتيان، أبرزها (الملجأ) التي يستعيد فيها شيئاً من سنوات بفاعته في ظل الحرب اللبنانية، مذكرا بالثمن الذي يدفعه الأطفال في النزاعات والحروب؛ فضلا عن مئات المقالات في السياسة، الأدب، اللغة، والترجمة ومقاومة التطبيع. 

كان سماح إدريس نموذجا للمثقف المتأثر والمؤمن بالفكر القومي الذي روّج له والده من خلال مجلته ودار النشر التي أسسها، 

وبعد عشر سنوات على ثورات الربيع العربي، قام سماح إدريس بترجمة مقال كتب بالإنكليزية للباحث الفلسطيني محمد بامية، ونشره في مجلة (الآداب) الإلكترونية، حيّى فيه كل تلك الثورات وأكد فيه حتمية الثورة، 

رحل سماح إدريس بعد تدهور صحته جراء إصابته بمرض السرطان، آمن بفلسطين وحمل لواء مقاومة التطبيع مع إسرائيل، فاستغل إعلام أبواق الدكتاتوريات  هذا الموقف لطمس موقفه المبدئي إزاء الحريات كل الحريات،بما فيها حرية الإنسان الفرد الذي لن يستطيع أن يقاوم مشاريع التطبيع في الخارج، وهو مسحوق الكرامة داخل وطنه.

تعليقات