هذا عرض وتلخيص لكتاب ، قمت به ، وأرجو أن يعجب الأصدقاء ، وأن يشجع من لم يقرأه بعد علي قراءته ، وحتي من قرأه منذ زمن بعيد علي إعادة قراءته ، فهو من أصدق وأدق ماكتب العقاد وما كتبه المؤلفين علي العموم عن الحاكم الشهير الذي كان له كثير من التأثير ... إني أقوم بمثل هذا العرض والتلخيص، لما أهتم به من الكتب اهتماما خاصا ، وأتمني أن يقرأها الكافة ، وأن يناقشوها بتأن وموضوعية ، ويستخلصوا منها كل مايمكن أن ينفع في حياتنا الحالية ، وكل مايمكن أن يساعدنا علي فهم الأمور، وماكان ، ومايمكن أن يكون ، قدر الإمكان .
"معاوية" .. كتاب رائع رائد للعقاد
يعد كتاب "معاوية بن أبي سفيان" للكاتب المفكر الكبير عباس محمود العقاد (الذي يعاد طبعه كثيراً كبقية كتبه أو معظمها)، من أبرز كتب العقاد، بل ونحسبه أدق كتاب وأوفى مرجع عن شخصية هذا الحاكم، بالغة الأهمية في تاريخنا العربي الإسلامي..
وفي الفصل الأول "المدخل" الذي يطلق عليه العقاد عنوان: "تقدير وتصدير"، يشير ابتداء إلى أن: "الصفحات التالية تتناول النظر في سيرة معاوية.. وليست سرداً لتاريخه ولا سجلاً لأعماله ولا معرضاً لحوادث عصره، ولكنها تقدير له وإنصاف للحقيقة التاريخية وللحقيقة الإنسانية كما يراها المجتهد في طلبها وتمحيصها..".
يلي ذلك فصل له أهميته الخاصة، تتضح منه النظرة الأساسية، التي ينطلق منها الكاتب في تقدير وتقويم هذه الشخصية، وهو فصل بعنوان: "بين القدرة والعظمة". ويبادر العقاد فيه إلى القول المحدد الجلي، من أول سطر:
"زبدة الصفحات التالية أن رأس الدولة الأموية كان رجلاً قديراً، ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
والفرق بين القدرة والعظمة يوضحه الاصطلاح ولا توضحه المعجمات اللغوية هذا التوضيح الذي نعنيه..".
مضيفاً:
".. إذا عظمنا الإنسان فإنما نوجب له التعظيم علينا، لأنه يعنينا ويستحق إكبارنا ويرتفع إلى المكانة التي تلحظها الإنسانية بأسرها وتعود عليها في منافعها وخيراتها.
فكل عظيم قدير.
ولكن ليس كل قدير بالعظيم.
والعظمة قدرة وزيادة.
أما القدرة فليس من اللازم أن تكون عظمة، فضلاً عن أن تكون عظمة وزيادة.. ومعاوية قدير لاريب. أما أنه عظيم فذلك الذي نعرض له في الصفحات التالية لنبين فيها الفارق بين القدرة والعظمة، في ترجمة رجل من أنفع الرجال النابهين لتوضيح هذا الفارق بميزان الحوادث وميزان الأخلاق".
...
يمكننا أن نجمل هنا، جوانب رئيسية، في "شخصية معاوية"، ودوره وعصره، ذهبت إليها فصول كتاب المفكر والمؤرخ عباس محمود العقاد، حول هذا الرجل الذي كان له في تاريخ أمتنا بغير جدال، اهميته وأثره، الواضحين البالغين:
أولاً:
يناقش العقاد مسألة يوجد من أثارها، تشكيكاً في "إسلام معاوية" ذاته، فيرد عليهم معترضاً، ومدللاً، بما جاء في فصل بعنوان "النشأة والتكوين"، ومن ذلك ما جاء بالنص التالي (حول السؤال عن: معاوية وأمر الدين من أساسه). يقول العقاد:
"إن أناساً من الغلاة قد شككوا في إسلامه، بل جزموا بإسلامه على دخلة ومداهنة، فهل كان لهذا الشك من مسوغ في عمله أو كلامه بعد إسلامه مع أبيه في عام الفتح كما هو معلوم؟. لقد تأخر إسلامه كما تأخر إسلام أبيه، فأسلما معاً في عام الفتح وهو في نحو الثالثة والعشرين، وليس هذا التأخر بموجب للشك في عقيدته، لأنه يحدث في كل دين وفي كل دعوة، وينقسم الناس في جميع الدعوات الدينية والفكرية إلى مبادرين ومترددين ومتلبثين متلكئين لا يستجيبون لها إلا مع آخر مستجيب..".
وفي مقدمة ما يدلل عليه الكاتب هنا، توكيداً لما يذهب إليه، أنه قد نشأ في بيت معاوية هذان الحفيدان التقيان، فيقول:
"لا نتصور أن رجلاً له باطن وظاهر في أمر العقيدة ينشأ في بيته مؤمنان تقيان كخالد ومعاوية الثاني حفيديه، فإن إخفاء البواطن عشرات السنين حيث يعيش المرء على رسلته أمر يفوق طاقة الإنسان".
ثانياً:
كان العقاد من قبل في فصل مبكر، قد عرض كذلك لهذا الأمر، هو فصل "بين القدرة والعظمة"، على أنه قال هنا بوضوح تام، ما نصه:
"إلا أننا مع العلم بغيرته الدينية في شعوره وأفعاله، نستطيع أن نعلل جميع أعماله، بعلة المصلحة (الذاتية) أو مصلحة الأسرة والعشيرة..".
بل إن العقاد في ذلك، يذهب إلى حد "التعميم"، فيستطرد مكملاً القول:
"ونستطيع أن نعمم القول بغير استثناء على كل مسعى من مساعيه، وكل حيلة من حيله، وكل مأثرة من مآثره، فنقول: إن المصلحة الذاتية، أو مصلحة الأسرة والعشيرة، كافية لتعليلها والقيام بها، وإنه لم يعارض المصلحة الذاتية بإرادته في حين واحد، وعارض المصلحة العامة في أحيان، كان رجلاً قديراً ولكنه لم يكن بالرجل العظيم. ومهمة المؤرخ في سيرته أن يقدر قدرته، وأن يعرف ما اقتدر عليه بسعيه وتدبيره، وما اقتدر عليه بمساعدة الزمن وممالأة الحوادث والمصادفات".
ثالثاً:
لا يرى العقاد أن معاوية ـ كما يروق للبعض أن يشيع ـ كان من "كتاب الوحي".
فيقول، في فصل "النشأة والتكوين"، ما نصه:
"تعلم معاوية القراءة والكتابة والحساب، وتتفق الأخبار على كتابته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تتفق على كتابته للوحي، ولا على حفظه لآيات من القرآن تلقاها من النبي، كما كان كتاب الوحي يتلقون الآيات لساعاتها، والأرجح أنه لم يكن معروفاً بحفظ شئ من كتابة الوحي في أيام جمع القرآن الكريم، ولو علم عثمان ـ وهو من ذوي قرابته ـ أن عنده مرجعاً من المراجع يثوب إليه، لرجع إليه كما رجع إلى غيره".
رابعاً:
في فصل "النشأة والتكوين" أيضاً يرصد العقاد ما عبر عنه بالقول، في حديثه عن نشأة معاوية:
"إنه كان إلى تربية التجارة والتدبير، أدنى منه إلى تربية الفروسية والنضال، فلم يؤثر عنه من فعال الفروسية بعد بلوغه مبلغ الرجال فعل يميزه بدربة خاصة على فنونها المعهودة في زمنه كالمسايفة، وإصابة الهدف، والسبق على متون الخيل، والصمود للأقران في المبارزة، ولعل تربية الفروسية لم تزد على القدر الضروري الذي يعاب الجهل به، ولا يبرز إلى مكان التنويه والتمييز..".
خامساً:
في فصل بالكتاب بعنوان "خليقة أموية" يرصد العقاد خصالاً وصفات، أو ما يسميه "خلائق أموية"، فيستهل الفصل بالقول:
"تميزت لبني أمية في الجاهلية، وصدر الإسلام، خلائق عامة، يوشك أن تسمى ـ لعمومها بينهم ـ خلائق أموية، وهي تقابل ما نسميه في عصرنا بالخلائق الدنيوية أو النفعية، ويراد بها أن المرء يؤثر لنفسه ولذويه ولا يؤثر عليها وعليهم في مواطن الإيثار..".
مضيفاً قوله:
".. وهذه الخلائق الأموية دنيوية نفعية كما قدمنا، تميل بالمتخلقين بها إلى مناعم الحياة، وتحبب إليهم العيش الرغد والمنزل الوثير.. وتغريهم بالنعم واللذات يغدقونها على انفسهم وعلى الأقربين، فهي عندهم قسطاس من البر بمن يحبون كما يحبون..".
ومن بين هؤلاء ـ في بني أمية ـ يشير العقاد على سبيل المثال إلى "عبد العزيز بن مروان" فيقول أنه "كان ينزع في الترف" ذاكراً ضمن ما يذكر التالي:
"اقتنى الدور في مصر وجملها بالأثاث الفاخر، وجعل يهديها إلى أبنائه وذويه، واشترى أرض حلوان بعشرة آلاف دينار ليقيم عليها قصره المنيف الذي موه جدرانه بالذهب وأنفق على فراشه وأثاثه الألوف..". إلخ.
ومع ذلك، يلفت العقاد النظر بالقول: ".. وليس عبد العزيز ـ على هذا ـ بالمثل الذي يقال عنه: إنه (نموذج) للخليقة الأموية في الكلف بالنعمة الدنيوية..". وإنما يشير إلى أنها كانت على أتمها في سليمان بن عبد الملك، قائلاً عنه: "كان نهماً لا يشبع ولا يرجع الخواني من بين يديه وعليه بقية، وكان يلبس الوشى على أفخر حلية وزينة..".. إلى ما غير ذلك، وهنا يقول العقاد ما نصه:
"هذا هو الأموي من الأمويين، وغيره منهم يشبهه في كل خصلة من هذه الخصال على درجات، ومنهم معاوية رأس الدولة..".
هنا أيضاً يقول العقاد عن "معاوية":
"جاء في "الطبري" أنه كان يأكل في اليوم سبع مرات، بلحم ويقول: (والله ما أشبع وإنما أعيا). ولم يروها الطبري وهو يشهر بها، بل رواها وقال بعدها: (وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك). وسبق الطبري هذا الخبر بتعليل لذة النعمة من دعوة رسول الله عليه في صباه. فمن أخبار الإمام أحمد المسندة إلى ابن عباس أنه قال: (كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء فقلت: ما جاء إلا إلى.."
على أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: "اذهب فادع لي معاوية". ويستكمل النص كما يلي:
".. فذهبت دعوته إليه، فقيل: إنه يأكل! فأتيت رسول الله فقلت: إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية، فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه.. فما شبع بعدها).
مضيفاً العقاد هنا:
"ولم يزل بعد الإمارة يفرط في مأكله من اللحوم والحلوى والفاكهة حتى ترهل، وعجز عن القيام طويلاً فكان يخطب على المنبر وهو جالس، وكان أول من جلس في خطبة منبرية. وشغف بالأكسية كما شغف بالأطعمة، من الحرير، وتختم بالذهب والجوهر وولع بالثياب المزخرفة والموشاة.."
مضيفاً أيضاً:
"ولم يكن زهوه بسمته وسماته دون زهو سليمان، فكان يصفر لحيته كأنها الذهب.. وقد أصابته لوقة في آخر عمره ـ وهي كأثر الضربة في الجلد ـ فكان يستر وجهه ويقول: (رحم الله عبداً دعا لي بالعافية، فقد رميت بأحسني..)
سادساً:
يقترب العقاد من ختام هذا الفصل، بالقول:
"لم يؤثر لمعاوية موقف واحد يحسب من مواقف الشجاعة البينة، بل حسب عليه أنه كان يأوى إلى قبة يحيط بها الحراس في معارك "صفين"، وأنه أسرع إلى فرسه في "ليلة الهرير" لينجو بحياته، ثم هدأ الخطر بعض الشئ فراجع نفسه وتراجع إلى مكانه وهو آمن من عاقبة هذه الرجعة، بعد أن خفت الهجمة على موضعه من ميدان القتال".
ثم يكون ختام الفصل ككل بقول العقاد:
"ليس من أخبار بني أمية في الجاهلية وصدر الإسلام خبر واحد ينفي عنهم هذه الخليقة الغالبة عليهم جميعاً من الاثرة والكلف بالمناعم الدنيوية وتقديمها على غيرها من مناقب الإيثار والمثل العليا".
ويشير الفصل هنا إلى أنه إذا كان معاوية يتسم بالإضافة إلى ذلك بنوع من "الحزم"، إلا أن العقاد يصفه "بالحزم الدنيوي".. فهو إذن ليس بالحزم الحقيقي أو الحق الذي يعنيه العقاد بنصه (المختتم للفصل)، مؤكداً أنه حزم كان يفتقده معاوية، قائلاً:
"كان من الحزم ألا يتوسع في أبهة الملك، أو أبهة (الهرقلية والكسروية) كما كان المسلمون يسمونها في صدر الإسلام، ولكن لم يكد يملك حتى صنع ما يصنع القياصرة والأكاسرة من اقتناء الخصيان والجواري، والتوسع في بذخ القصور والقدور، وكان من الحزم أن يروض يزيد على كبح الشهوات، فلم يكد يسمع أنه اشتهى امرأة في عصمة رجل حتى احتال حيلته لإمتاعه بما اشتهى..".
ثم كان هذا هو القول الأخير الحاسم، للفصل الكبير الحافل:
".. عند هذه الخليقة الأموية تفسير الكثير مما جهله المؤرخون الأقدمون أو تجاهلوه، ولاسيما المؤرخين النهازين من المنتفعين أو المتطوعين".
سابعاً:
يلي الفصل السابق أحد أهم فصول الكتاب وأخطرها بعنوان "موقف معاوية من قضية عثمان".
ويبدأ العقاد سطور الفصل بالقول: "إن الأخبار المقدمة على غيرها، في حوادث العالم الإسلامي، التي أفضت إلى قيام الخلافة الأموية، إنما هي الأخبار التي لها مساس بموقف معاوية من عثمان، قبل مقتله، وبعد مقتله والمبايعة لعلي بالخلافة في الحجاز".
ثم يجمل العقاد، في الفقرة التالية، الساطعة القاطعة، ما سوف يثبته ويفصله، خلال ما سيلي من سطور فصله. وهذا نص الفقرة:
"كل ما وصل إلينا من أخبار ذلك الموقف يدل على شئ واحد لا محل فيه للخلاف الطويل، بين الناظرين إليه من الوجهة التاريخية الخالصة، وهو عمل معاوية لنفسه في كل مطلب طلبه من عثمان، وكل نصيحة أسداها إليه، وكل مشورة أشار بها عليه، فليس في هذه المطالب والنصائح أو المشورات شئ قط تجرد من منفعة ينظر إليها معاوية في حاضره أو مصيره، وكل ماعدا ذلك فقد يكثر فيه الخلاف ويؤول فيه التأويل".
ثامناً:
ثم يؤكد العقاد، أنه وفق جميع "الروايات": "لم يتغير موقف معاوية، وهو موقف الرجل الذي لا يبالي، أن تنجم الفتنة حيث نجمت، وأن يبتلى به الخليفة..". مضيفاً: "وقد تفاقم الخطب ونظر الخليفة المحصور حوله يطلب الرأي من ذوي الرأي بين خاصته وخاصة المسلمين..".
فبماذا أشار عليه معاوية؟. في مواجهة (الأزمة أو الخطب أو الفتنة ـ أياً كان الوصف).. يقول الفصل بما نصه، وإنه لأمر حقاً مذهل مروع فيما يتبدى، كاشف دال فيما يفصح:
".. بقى معاوية فسأله عثمان، فأجاب كما جاء في "الإمامة والسياسة": (الرأي أن تأذن لي بضرب أعناق هؤلاء القوم، قال من؟ قال: علي وطلحة والزبير.. قال عثمان: سبحان الله! أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه ولا ذنب ركبوه؟! قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك.. قال عثمان: لا اكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء..".
ثم قال له معاوية آراء أخرى، أشار على عثمان بها، وعليها جميعاً يعلق العقاد بوضوح تام.. قائلاً:
".. تلك جملة الآراء التي أشار بها معاوية على الخليفة، وما من رأي منها، إلا والنفع فيه ثابت لمعاوية، غير ثابت لعثمان، وربما كان في معظمها ما يضره ولا يجديه. فليس قتل علي وطلحة والزبير بالأمر الهين الذي يدفع الشر عن الخليفة، وليس هو بالخطة التي يختارها معاوية لنفسه لو كان في موضع عثمان..".
بل يصل العقاد إلى حد القول، أن معاوية لو كان في موضع عثمان:
"ليس من خطته التي يختارها لنفسه ويحمل تبعاتها على عاتقه، أن يقتل ثلاثة من أقطاب الصحابة كعلي وطلحة والزبير، كما أشار على عثمان، وإنما يبوء عثمان بتبعتها، ويترك الأمر من بعده لمعاوية، بغير منافس ينافسه عليها، بعد مقتل الثلاثة الذين كانوا مرشحين لها عن أهل الحجاز وأهل الكوفة وأهل مصر".
معقباً هنا أيضاً العقاد على آراء أخرى، نصح معاوية بها عثمان (كبدائل):
".. وأما الإشارة على عثمان بإقامة أربعة آلاف من خيل الشام يحرسونه، فهو تسليم للحجاز إلى أيدي معاوية في حياة الخليفة، وبعد حياته، فلا يقدر أحد على بيعة فيه غير البيعة التي يرضاها..".
وبالنسبة لرأي آخر (بديل) لدى معاوية، يقول الكاتب:
".. وخروج "عثمان" من المدينة إلى الشام مع معاوية، ينقل العاصمة إلى دمشق، ويجعل القول الفصل بعد موت الخليفة، لصاحب القول الفصل في الشام (أي معاوية). وما من أحد قط ينتفع من العمل بهذه النصائح غير معاوية في جميع الحالات".
تاسعاً:
ثم نصل إلى ذروة هذه الحال، حين يقول العقاد في الفصل نفسه ـ (وقد آل أمر الحكم كله إلى معاوية):
"ووقعت الواقعة ومات الخليفة قتيلاً، وذهب معاوية يطالب بدمه، وينكر على "علي" بيعته، لأنه لا يسلمه قتلة عثمان، ممن يذكرهم إجمالاً أو يسميهم بأسمائهم، وآل الأمر كله بعد حين إلى معاوية يصنع بهؤلاء ما يشاء، فلم يأخذ واحداً منهم بجريرة مشهودة، ولم يحاسب أحداً على جريرة مستورة تتطلب الإشهاد، وكان يلقى الرجل منهم فلا يزيد على ان يسأله كما سأل "أبا طفيل": ألست من قتلة عثمان؟ ثم يصرفه في أمان، وقد يسكت عن سؤاله ويصرفه مزوداً بالعطاء".
أكثر من ذلك.. يضيف العقاد:
"ولم يخف هذا الموقف الذي لا خفاء به، على أبناء عثمان وبناته، فإنهم كانوا يرون معاوية فيلقونه بالبكاء ويذكرون أباهم، ليذكروه بدمه المطلول ووعده بالثأر له، ثم سكوته عن الثأر..".
مضيفاً العقاد هنا، ما يمكن لنا، أن نعتبره "خلاصة" لهذا الأمر ككل:
"فالمطالبة بدم عثمان إنما كانت قائمة حين كانت لازمة للتحريض على "علي"، وبث الدعوة والتمكين لمعاوية، فلما تمكن واستطاع ما لم يكن في وسع "علي" أن يفعله، سكت عن الثأر وحديثه، إلا ما كان من قبيل الحوار العقيم في المجالس. وقبل من نفسه العذر ضعيفاً هزيلاً، ولم يكن يقبله قوياً معززاً بالواقع والبينة ممن لا لوم عليه. ذلك أيسر ما يقال عن حقيقة الموقف من قضية عثمان ومطالبة معاوية بدمه، وكل ما فعله معاوية من نصرة عثمان قبل مقتله وبعده فهو ثابت النفع لمعاوية غير ثابت النفع لعثمان".
مختتماً مؤلف الكتاب المفكر والمؤرخ الكاتب الشامخ، فصله هذا ككل، بهذه الفقرة الخاتمة القاطعة الجلية:
"قضاء التاريخ في موقف معاوية من عثمان، أنه موقف يسقط كثيراً من التهم، التي كان يكيلها لخصومه، ويسقط كثيراً من الأعذار التي كان ينتحلها لنفسه، ويوجب على المؤرخ أن ينفذ من وراء التهم والمعاذير إلى تفسير واحد لوقائع الثورة التي ثارها معاوية باسم عثمان، فإن أصدق البواعث لها أنها ثورة في طلب الملك، أعوزتها الحجة، فالتمستها من مقتل الخليفة الشهيد".
عاشراً:
في فصل بعنوان "الدهاء"، يناقش العقاد، ما قيل وتردد عادة حول اتسام أو اتصاف معاوية بالدهاء، ويناقش: إلى أي مدى؟ وفي أي نوع من الدهاء حقا؟.. حال معاوية.
وأفضل تلخيص، أو خلاصة، لهذا الفصل ـ المطول ـ هو ما قام به العقاد نفسه في أواخره، بالقول المحدد التالي:
"نحسب أننا في هذا الفصل قد ألممنا بأفانين الدهاء التي نسبت إلى رأس الدولة الأموية، ويتبين منها جميعاً أن دهاءه من قبيل الدهاء الذي يعول على قضاء المصالح وتبادل المنافع، ويتساوى فيه دهاء الطرفين أو يكون الرجحان من قبل الطرف الآخر.. فليس دهاء معاوية من قبيل ذلك الدهاء الذي يسوق الأعوان سوقاً إلى خدمة مقاصده بسلطان القدرة العقلية الخارقة..".
بل يصل تحليل ـ وتحديد ـ العقاد، إلى القول والإضافة في هذا الموضع عن معاوية:
"الرجل على نصيب متوسط من العقل، يملي له طبع مفطور على الأناة، لم تتعجله الحوادث قط كما تعجلت منافسيه في الحجاز والعراق، وكان ذلك النصيب حسبه من العدة في ذلك النزاع الذي لا سواء فيه بين المصاعب والعقبات من الجانبين..".
على أن أخطر ما في هذا الفصل بعنوان "الدهاء"، وأيضاً في الفصل التالي بعنوان "الحلم" (وهما كما قال العقاد أكثر صفتين امتدحه بها مادحوه ـ ولدى كاتبنا كما يفصل ويحلل تحفظات حتى على كلا هذين الأمرين المشهورين!). نقول أن أخطر ما في فصل "الدهاء".. هي أنه إذا كان ابن معاوية "يزيد" حينما تولى الحكم قد قتل حفيد الرسول عليه الصلاة والسلام (الحسين رضوان الله عليه)، فإن معاوية نفسه قد سبق ابنه إلى قتل حفيد الرسول الآخر ـ الأكبر ـ (الحسن رضوان الله عليه).
إذ يتوقف العقاد ـ في فصل "الدهاء" ـ أمام ما أسماه "الوسائل الخفية"، وهنا نذكر نص "القول الخطير" له:
"ما رواه الرواة عن الوسائل (الخفية) التي توسل بها معاوية، للغلبة على خصومه ومنافسيه، وحسبت يومئذ من ضروب دهائه أو من ضروب كيده، وهو مرادف عند عامة القوم لمعنى الدهاء. مات الحسن، ومات مالك بن الأشتر الذي ولاه "الإمام علي" مصر بعد عزل قيس، ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعوجلوا جميعاً بغير علة ظاهرة، فسبق إلى الناس ظن كاليقين أنها غيلة مدبرة، وأن صاحب الغيلة من كان له نفع عاجل بتدبيرها، وهو معاوية. ونقل عن ابن العاص بعد موت الأشتر أنه قال: (إن لله جنوداً من عسل).. وكان موت الأشتر بعد شربة من العسل لم تمهله غير ساعات. ونقل الخبر عن دس السم للحسن رضوان الله عليه مؤرخ من الأمويين هو أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني المشهور. قال في كتابه "مقاتل الطالبيين": (أرسل معاوية إلى إبنة الأشعث: إني مزوجك بيزيد ابني على ان تسمي الحسن بن علي.. وبعث إليها بمائة ألف درهم فقبلت وسمت الحسن، فسوغها المال، ولم يزوجها من يزيد".
ويحدد العقاد باستمرار مراجعه ومصادر ما يذكر، كعادته في دراساته وكتبه القيمة، وكعادة العملاق الآخر طه حسين في كتبه ومنها دراسته التاريخية كتابه العظيم "الفتنة الكبرى"، وكغيرهما من الباحثين الكبار المتعمقين المدققين.
ففي هذا الموضع على سبيل المثال، من فصل "الدهاء" يقول العقاد:
"وجاء في أخبار سنة ثمان وثلاثين، لابن الأثير: (خرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك فعظم عليه، وكان قد طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر..".
راجعاً هنا أيضاً العقاد إلى رواية "الطبري"، التي ذكرت بتفصيل واقعة موت الأشتر "بالسم".. مضيفة رواية الطبري هنا ما نصه: ".. وقام معاوية خطيباً ثم قال: (أما بعد.. فإنه كان "لعلي" يمينان، فقطعت إحداهما "بصفين"، يعني عمار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم، يعني الأشتر)..".
مضيفاً هنا العقاد:
"وشاعت الشوائع بمثل ذلك عن آخرين من أعداء معاوية ومنافسيه، يملى للناس في تصديقها أن هؤلاء الأعداء ماتوا بغير علة موصوفة، في الموعد الذي يبغيه معاوية وتترتب عليه سياسته التي كان يرجئها إلى مواعدها.. فالحسن يموت قبل بيعة يزيد، كي لا يخرج معاوية على شرطه المكتوب للحسن، ومالك بن الأشتر يموت على أبواب مصر، وعبد الرحمن بن خالد يموت وهو في أوج سمعته بين قوم أعجبوا من قبل بأبيه، ويوشك أن يتجمع حوله الناقمون من أهل الشام وأهل الكوفة والحجاز..".
وبعد، نصل إلى الفصل الأخير "الخاتم" من كتاب العقاد، عن معاوية بن أبي سفيان، بعنوان "في الميزان"، هذا الكتاب الذي نحسبه جديراً بلا مراء ـ وبلا منازع ـ بمكانة الصدارة والمقدمة، فيما صدر عن سيرة وعمل معاوية من كتب ودراسات.
في فصل "في الميزان" الذي يجمل فيه عباس محمود العقاد خلاصة كتابه ورؤاه، يقول بوضوح وحسم وعلم ضمن ما ارتآه:
"إذا وزنت قدرة معاوية بميزان النجاح حصل من نجاحه في كفة الميزان حاصل قليل، يهون شأنه، مع أثقال الكفة الأخرى من الجهود والشواغل والهموم. فقد أراد الملك له ولبنيه، ولم يرده لبني أمية أجمعين، لأنه فرق بينهم ما اجتمع، وأغرى أناساً منهم بأناس، ولم يعمل عمله إلا ليتركه من بعده لعشيرته من بني سفيان، فلم يخلفه من ذريته غير يزيد، وذهب يزيد في عنفوانه بداء الجنب فلم يخلفه أحد من ولديه..".
يقول أيضاً العقاد في الفصل.. "في الميزان":
"إن الناس عرفوا في زمان معاوية، فارقاً شاسعاً، بين ولي الأمر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية، وأمانة للخلق والخالق، وشريعة لمرضاة الناس بالحق والإنصاف... وبين الحكم الذي يحاط بالأبهة، ويجري (يجور) على سنة المساواة ويملي لصاحبه في البذخ والمتعة، ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة..".
نرشح لك
محمد الروبي يكتب : جريمة الأسماعيلية
http://www.masafapress.com/2021/11/----_02116114497.html
تقرير : دومة صائد الفراشات سجين كلّ الأنظمة
http://www.masafapress.com/2021/11/------_01766171053.html
عبدالعظيم حماد يكتب : بقية 100 جنية في ذمة صباح فخري
http://www.masafapress.com/2021/11/100.html
حمدي عبدالعزيز-يكتب : حكاية شاعر و قصيدة
http://www.masafapress.com/2021/11/blog-post_90.html
محمد سيف الدولة يكتب : في ذكرى وعد بلفور