طعم الجميز ( نوستالجيا ) .. نص قصصي بقلم : مجدي أبو السعود


نحو نصف قرن مضى دون أن أتذوق طعم ثمار الجميز والتوت بلونيه الأسود والأبيض..كانت غيطان الفلاحين في زمن مضى زاخرة بشجر الجميز والتوت، وكنا ونحن صغارا قبل دخول المدرسة الإبتدائية وبعدها طوال النهار نرمح في براح الغيطان الممتدة بامتداد البصر فلم تكن قد دهمتها بعد بنايات الأسمنت المسلح فوق الأراضي الخصبة المزروعة بشتى أنواع الخضرة، فقط كانت أشجار الجميز العملاقة وفروعها الضخمة وأشجار التوت ( الدكر الذي لاينتج ثمارا والأنثى التي تنتج ثمار التوت بلونيه ) بأوراقها الخضراء العريضة التي يقتات منها دود القز وينتج الحرير الطبيعي؛ كانت تنتشر وغيرها من أشجار النخيل التي تسعى لملامسة سقف السماء وأشجار الجازورين، على حواف الغيطان وحواف الترع  وحول السواقي التقليدية القديمة العملاقة التي تجرها المواشي في شكل دائري لرفع المياه لتندفع عبر القنايات الطويلة الممتدة لتشق الغيطان الشراقي لريها، وليس ماكينات الري المزعجة بأصوات المواتير الصاخبة الحديثة، كنا نحن الأولاد الصغار نتسلق أشجار الجميز والتوت نأكل حتى تمتليء بطوننا ونأخذ معنا ونحن عائدون لبيوتنا كميات منها في جيوبنا وفي أي ورق يصلح لعمل قرطاس، لم يكن يعنينا لمن تعود ملكية هذه الأشجار فكنا نراها ملكنا جميعا ولا نعرف لمن تعود ملكية هذه الأشجار إلا حينما يفاجؤنا أحد الفلاحين بقذفنا بالطوب وما تيسر من الشتائم فينا وفي أهالينا ( اللي ماعرفوش يربونا ) حينها نقفز من فوق فروع الأشجار العالية للنط بعيدا عن الشجرة فصاحبها يتربص بنا تحتها ويتأهب لاصطيادنا وضربنا بعصا الحمار التي في يده ويرفعها نحونا متوعدا،  ولا مجال للنزول من على الشجر واحدة واحدة على مهل وعبر فروعها المتشعبة... دهمتني تلك الذكريات البعيدة وأنا سائر برفقة زوجتي على شارع البحر في المنصورة حين رأيت إحدى الفلاحات جالسة بطشت مليء بثمار الجميز العريضة والتي تشبه إلى حد ما ثمار التين، تأملت الجميز مليا محاولا استعادة طعمه من الذاكرة البعيدة، ولما رأتني هي شاردا أمام طشت الجميز فاجأتني قائلة: ماتيجي نشتري جميز للعيال؟! قلت مندهشا: هو الجميز بيتباع دلوقتي؟! وبعدين العيال لن يعرفوه مؤكدا قولي بسخرية : هل تظنين أن جيل الإنترنت والألعاب الإلكترونية والذي لايعرف شكل الشجر إلا من خلال الإنترنت؛ هل تظنين أنه سوف يعرف الجميز، ثم إنني أصلا لم أر جميزا منذ زمن بعيد حتى أشجار الجميز نفسها لم أعد أراها لدرجة أنني تخيلت أن الجميز انقرض هو والتوت وغيره من الثمار الغابرة؟! ورغم ذلك اقتربت من المرأة الجالسة أمام طشت الجميز ويمر أمامها كثير من المارة دون أن يتوقفوا لشراء جميز منها، أشرق وجه المرأة عن ابتسامة صبوح فسألتها بكام الجميز ياحاجة وبيتباع بالواحدة والا بالكيلو؟! قالت لتحرضني على الشراء: الكيس يابيه بخمسة جنيه وفيه كيس تاني بعشرة جنيه ولو خدت كيسين هاديهوملك ب 15 جنيه، اتفضل دوق واحدة يابيه، قلت لها: مش دلوقتي ياحاجة أصله مش مغسول ( وقفز الطفل الذي بداخلي قائلا بسخرية: يعني إنت يابيه كنت بتاكله من على الشجر في الغيطان مغسول) ثم قذفت واحدة داخل فمي وفي لحظات استرجعت مذاقه منذ نحو خمسين عاما، أخذت بضاعتي وقلت لزوجتي : أول ماندخل الشقة نسأل العيال: إيه ده ولو حد عرفه منهم سيأخذ مني مكافأة، قالت: هيقولولك ده تين بس شكله غريب شوية، ولما عدنا لم يتعرف أحد من العيال على الجميز لأنهم ببساطة لم يروه ولم يروا شجر الجميز من قبل وبالفعل قالوا: ده تين بس شكله غريب كده ليه؟! ولما غسلوه وأكلوا منه لم يستسيغوا طعمه وقال أحدهم : إيه القرف ده يابابا ده فيه نمل من جوه ! رددت منزعجا: إمال أنا ليه كنت باكله بنمله وبدون غسيل وأنا صغير من على الشجر رأسا دون وسيط وببلاش وأحيانا كنا نتعرض للضرب للحصول على مثل هذه الثمار التي تتأففون منها الآن؟!

تعليقات