فى بداية التحقيق معى قبل أسابيع .. وبينما أطالع بلاغ المواطن الشريف الذى لا يعرفني (وفقاً لأقواله) .. وجدْتُه (يا سبحان الله) يعرف كل بياناتى الرسمية بالتفصيل كالاسم الرباعى والعنوان والرقم القومى(!) .. وهو ما ذَكَّرَنى ببطل الفيلم الهزلي الشهير (اللمبى ٨ جيجا) الذى يحمل شريحةً إلكترونيةً عليها بيانات السجل المدنى للمائة مليون مواطن.
لكن القدرة الخارقة للمواطن الشريف لم تقف عند حد الأرشفة واسترجاع البيانات، وإنما تعدتها إلى التنصت على النوايا .. إذ بدا وكأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور (أستغفر الله) عندما أكَّد أننى أقصد بمقالى كذا وكذا وكذا (من قائمة الاتهامات النمطية) .. وهو ما أكدته رسمياً تحريات الأمن(!).
تذكرتُ حكاية ال (٨ جيجا) وأنا أتابع حوار فخامته مع محافظ القاهرة منذ أيامٍ .. والذى كرر فيه استعلاءه بقدراته الخارقة التى يعرف بها كلَ شئٍ فى مصر (حتة حتة وبالتفصيل) امتداداً لما قاله من قبل من أنه يتابع كل شئٍ فيها منذ ٦٠ عاماً (كان عمره ٤ سنوات) .. وأنه فعل ما لم يسبقه إليه أحدٌ (يقول ذلك فى افتتاح مشروعٍ محمودٍ بلا شك .. ولكنه فى النهاية مشروعٌ عقارىٌ .. فى بلدٍ لا يتوقف فيها البنيان العقارى حتى ولو لم يكن فيها رئيس .. ولَم يصدر مثل هذا الاستعلاء ممن بنى الهرم أو السد العالى أو الساحل الشمالي مثلاً) .. مع تقريعٍ دائمٍ للمصريين على كل شئٍ (من القروش حتى الكروش).
من حيث الشكل، فإن ما حدث لم يكن حواراً بقدر ما كان مونولوجاً من طرفٍ واحدٍ .. التزم فيه المحافظ بالصمت إما تأدُباً أو جهلاً أو رُعباً .. وهو مونولوجٌ تكرر قبل ذلك .. يتغير فيه المستمع فى كل مرة .. محافظ .. أو عضو برلمان .. أو سكرتير بدرجة وزير .. مع ثبات المطرب.
درسنا فى علم الإدارة أن هذا المونولوج هو أحد سِمات المؤسسات والشركات الفاشلة حيث يحتكر رئيسها العلم والحكمة ويَضيقُ بمن يناقشه .. لكن المونولوج هذه المرة لم يَدُر فى شركةٍ وإنما دار على أعلى مستوىً فى دولةٍ بحجم مصر .
هذا من حيث الشكل .. أما من حيث المضمون، فإن فحوى المونولوج جاءت فى سياق قول فخامته قبل ثلاث سنواتٍ إن الله قد خلقه هكذا .. طبيباً يصف الحالة ويُشخصها .. وهى نعمةٌ اختصه الله بها .. وما علينا إلا أن نسمع كلامه .. لأن الدنيا كلها .. خبراء المخابرات .. والسياسيين .. والإعلاميين .. وكبار الفلاسفة .. كل هؤلاء أصبحوا ينصحون بالاستماع لما يقول(!).
وقد دأَب سيادته من يومها على أن يُزَّكِىَ نفسَه .. ويُزَّكِيه منافقوه ودراويشه باعتباره فلتة الزمان وَهِبَة الله لهذا الشعب المُهمِل الكسول الذى لا يجارى عبقريته .. وهى ادعاءاتٌ لا توجد أمارةٌ واحدةٌ على صحتها .. فلا هو كان من أهل العلم والنبوغ فى أى مرحلةٍ من مراحل حياته (ولا يعيبه ذلك كرئيس) .. ولا مصر بلدٌ قفرٌ بورٌ كانت فى انتظار هذه البذرة الخارقة .. وهى أكبر بلا شكٍ من أن يَمُّنَ عليها أحدٌ بعلمه وفضله.
لقد هَرِمنا ونحن نحلم بيومٍ يحكم مِصْرَ فيه رئيسٌ عادى .. خادمٌ أجيرٌ عند شعبه .. بَشَرٌ يأكل الطعامَ ويمشى فى الأسواق .. ويخضع للمحاسبة .. لا نريد حاكماً خارقاً ٨ جيجا .. نصف إله .. لا يُسأَلُ عمَّا يفعل .. يدير الدولة معتمداً على عِلمِه اللدُنِّى .. لا يستشيرُ ولا مُشيرَ له.
اللهم إننا نريد رئيساً عادياً .. لا يأتيه العِلمُ من السماء .. وإنما من مستشارين عدول.
رئيساً يعرف أن مصر أكبر كثيراً من كتيبة .. وشعبها أكبر كثيراً من جوقة المصفقين الذين يتم انتقاؤهم ليتحدث إليهم.
مصر لا تحتاج رئيساً موصولاً بالسماء .. يكفى أن يكون معجوناً بالأرض.
ولا تحتاج رئيساً عالِماً .. يكفى أن يكون متعلماً.
ولا تحتاج رئيساً خارقاً .. يكفى أن يكون صادقاً.
وما ذلك على الله ببعيد.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق