السنوات التي أمضاها محمد أبو زهرة في مدرسة القضاء الشرعي هي ربما ما كان يحتاج إليه ذلك الطالب النجيب لكي يحتك بناظرها العالم الجليل عاطف باشا بركات، ويتعلم منه أخلاق العلماء في التمسك بالحق والثبات عليه، لكي ينطلق بعد ذلك أبو زهرة إلى الآفاق عالماً داعية مدافعاً صامداً عن الشريعة الإسلامية، يقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله: «لما دخلت مدرسة القضاء الشرعي كان ناظرها العالم الجليل ذو الأخلاق (عاطف باشا بركات)، وكان شديد التمسك برأيه ما دام لم يعلم أنه باطل، ومن هذا المنبع استقيت ما تغذت به نفسي وأرضى نزعتي، لقد ابتدأت فقيراً، ولكن لم ينل الفقر من إحساسي بنفسي واعتزازي بديني»، لقد كانت حياته كفاحاً متواصلاً من التعليم ونشر العلم الصحيح والدعوة للإسلام السمح الذي يقيم العدل والمساواة، ويحارب الظلم والجور.
ولد العالم المصري محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بمحمد أبو زهرة في مدينة المحلة الكبرى في عام 1898م، وحفظ القرآن في الكتّاب، وأجاد الكتابة والقراءة والكتابة، ثم انتقل إلى الجامع الأحمدي بمدينة طنطا، وبعد ثلاث سنوات من الدراسة بالجامع الأحمدي اجتاز سنة 1916م بامتياز اختبار الدخول إلى مدرسة القضاء الشرعي، التي مكث فيها ثمانية أعوام حافلة بالتحصيل، وتفتح فيها وعيه على واقع العالم الإسلامي وحاجة مجتمعاته إلى علماء يدافعون عن الشريعة من دون محاباة لأي اتجاه سياسي، أو بغية لأي مأرب مادي، وحصل في مدرسة القضاء الشرعي على الشهادة العالمية عام 1924، ثم التحق بمدرسة دار العلوم لينال شهادتها عام 1927م، ما عمق معارفه الإسلامية.
اشتغل الشيخ أبو زهرة بالتدريس في المدارس الثانوية قبل أن يعيّن مدرساً للخطابة في كلية أصول الدين في الجامع الأزهر، وكان خطيباً مفوهاً عالماً يمتلك أسلوباً آسراً، وكان التدريس مناسبة له لتتبع سيّر الخطباء والوقوف على أصول الخطابة في العصور الجاهلية والإسلامية، وقد لمع نجم ذلك الشاب الخطيب فاختارته كلية الحقوق المصرية لتدريس مادة الخطابة بها، وكانت تُعنى بها عناية فائقة، وتمرن طلابها على المرافعة البليغة الدقيقة، ثم عهدت إليه الكلية بتدريس مادة الشريعة الإسلامية، وقد أدى مهمته بجدارة وتدرّج حتى شغل منصب رئيس قسم الشريعة، وظل به إلى أن تقاعد في عام 1958، وبعد إنشاء مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر اختير أبو زهرة عضوا فيه عام 1962، كما كان الشيخ أبو زهرة من مؤسسي معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، وكان يلقي فيه محاضراته في الشريعة الإسلامية احتسابًا لله من دون أجر، وكان هذا المعهد قد أنشئ لمن فاتته الدراسة في الكليات التي تُعنى بالدراسات العربية والشرعية، فالتحق به عدد كبير من خريجي الجامعات الراغبين في مثل هذه الدراسات.
تعود شهرة الشيخ محمد أبو زهرة إلى مواقفه الصلبة في الدفاع عن الشريعة، وعدم محاباة أي طرف على حساب الحق، وكذلك إلى مؤلفاته الجليلة الكثيرة التي توزعت بين السير والفقه، وقد عاش الشيخ أبو زهرة في فترة كثر فيها اللغط، وتشعبت فيها مشارب الناس السياسية ومحاولات كل طرف أن يأخذ من الدين ما يلائم مقاصده السياسية، وظهر فيها دعاة لكل اتجاه، واختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبح كل يفتي على هواه، فكان على الشيخ أبو زهرة، وهو العالم العارف بالدين أن يواجه تلك الدعوات بتبين الحق والثبات عليه، وقد فعل ذلك بعزم ودأب وشجاعة، فانبرى يحاضر حول الشريعة مبيناً لها ومدافعاً عنها، وحورب وضغط عليه، وهدد، وقاطعت وسائل الإعلام محاضراته، وشهّرت به، فما زاده ذلك إلا تمسّكاً بالحق وإصراراً عليه، وكان يتأسى في ذلك بالعالمين الجليلين العز بن عبد السلام وابن تيمية، وكان من أنصار الديمقراطية والانتخاب الحر للرئيس، ويدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وعندما أرادت الحكومة تمرير مشروع قانون للأحوال الشخصية يتضمن بنوداً تخالف الشريعة الإسلامية مثل: تحديد النسل، وتقييد تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، عارض الشيخ أبو زهرة مشروع القانون وقرر إقامة مؤتمر شعبي لمناقشة هذا الأمر في سرادق كبير في شارع العزيز بالله، أمام منزله بضاحية الزيتون في القاهرة، وأقام السرادق وهيأ كل الظروف لذلك، لكن الأجل اختطفه في اليوم الذي سبق موعد المؤتمر، وكانت وفاته مساء يوم الجمعة 29 مارس/ آذار 1974، وكان لا يهاب في الحق أحداً.
أما مؤلفات أبو زهرة فهي لا تقل أهمية عن محاضراته ومواجهاته العلمية والفكرية مع خصومه، وقد خصصها لبيان قضايا الفقه والمعاملات الصحيحة في عصره، وقد كتب نحو ثلاثين كتاباً تعد اليوم ثروة كبيرة، عالج فيها جوانب مختلفة في الفقه الإسلامي، وجلّى بقلمه فيها موضوعات دقيقة، فتناول في مؤلفات مستقلة الملكية ونظرية العقد، والوقف وأحكامه، والوصية وقوانينها، والتركات والتزاماتها، والأحوال الشخصية، وتناول سير ثمانية من أئمة الإسلام وأعلامه الكبار مفصلاً في حياتهم، ومبرزاً جهودهم في الفقه الإسلامي في وضوح وجلاء، وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وزيد بن علي، وجعفر الصادق، وابن حزم، وابن تيمية، وقد أفرد لكل واحد منهم كتاباً في محاولة رائدة ترسم حياتهم العلمية، وتبرز أفكارهم واجتهاداتهم الفقهية، وتعرض لآثارهم العلمية وكيف أثرت في مسيرة الفقه الإسلامي، وتنبئ كتبه عن دقة علمية قائمة على التوثيق وحصافة الرأي، ولا غرو فهو فقيه متخصص متمكن من الأصول والفروع.
وإلى جانب الفقه وقضاياه كان لأبي زهرة جهود في تفسير السيرة النبوية، وقد أصدر كتاباً جامعاً بعنوان «المعجزة الكبرى»، تناول فيه قضايا نزول القرآن وجمعه وتدوينه وقراءته ورسم حروفه وترجمته إلى اللغات الأخرى، وختم حياته بكتابه «خاتم النبيين» تناول فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، معتمداً فيه على أوثق المصادر التاريخية، وكتب السنة المعتمدة، وقد طبعت هذه السيرة في ثلاثة مجلدات.
يقول أبو زهرة في مقدمة كتابه «الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي»: (فالرحمة الحق هي التي يقرها العدل، والتسامح الحق هو الذي لا يخفض حقاً ولا يقيم باطلاً، ولقد كان خلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تتجلى فيه الرحمة والتسامح والعدل فهو رحيم متسامح عادل، وهي أوصاف متلاقية غير متنافرة، ولقد وصفت أخلاقه زوجته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، فقالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأة ولا دابة، ولا شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله».
هذه أخلاق الرحماء، حقاً وصدقاً، يتسامحون في حقوق أنفسهم التي لا يترتب على التسامح فيها نصرة الباطل، ولا هدم لحق غيرهم، ولعل هذا ما يفسر لنا قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا نبي المرحمة، وأنا نبي الملحمة»، فالملحمة والمرحمة من الأنبياء متلاقيان، كما يتلاقيان في كل حاكم عادل، يسوس الناس بالقسطاس المستقيم، والملحمة هي أخذ الباطل بما يستحقه، وأخذ المبطلين من معاطسهم ليحملوا على الجادة حملاً، هي قانون من قوانين المرحمة».