تنوعت نصوص الكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ وتعددت عوالمها وتواشجت رؤاها، ففتحت الأفق رحبا أمام النقاد والباحثين، ليستخرجوا منها كل يوم ما هو جديد، وهو ما يشير إلى رحابة فكر محفوظ وإلى ثراء الدلالات وتعدد المعاني التي يخلقها عالمه الأدبي، ومن أحدث المقاربات لأعماله كتاب “نجيب محفوظ: الذاكرة والنسيان”، للناقد المصري ممدوح فراج النابي.
في كتابه الجديد “نجيب محفوظ: الذاكرة و النسيان” يشبه ممدوح فراج النابي أعمال نجيب محفوظ بجبل الثلج، فهي ما زالت تخفي أكثر مما ظهر منها، فإبداعاته تتجاوز زمانه ومكانه، وتقبل دائما تفسيرات وتأويلات جديدة، وتحيل دائما إلى الحاضر، بالرغم من أن تاريخ كتابتها وطباعتها يشير إلى ماض بعيد نسبيا.
تجاوز الواقع
بدأ الكتاب بدراسة موسعة لكتاب محفوظ “أحلام فترة النقاهة” من حيث بنيتيه التشكيلية والرمزية، مبينا أن اهتمام محفوظ بالحلم بدأ بمجموعة ”رأيت فيما يرى النائم” الصادرة عام 1982، وتتفق مجموعتا الأحلام من حيث الشكل الفني والمضمون الفكري والدلالة، كما تربط الدراسة بين الأحلام وأصداء السيرة الذاتية، فكلا العملين بمثابة مقطوعات قصيرة، تعتمد على التكثيف في اللغة والعمق والإيجاز، ومصدرهما معا ذاكرة محفوظ، وكل منهما وعلى الرغم من اختلاف الشكل الذي كتبا به، يشكل وحدة متكاملة، تعكس فكر وفلسفة صاحبهما، كما أن كليهما يضم وحدات قصيرة تدور حول نماذج بشرية كثيرة حملها محفوظ بآرائه، كذلك ثيمة الموت من الثيمات الأساسية فيهما. كما يتشابه شكل كتابتهما مع المأثورات الصوفية الموغلة في الرمز.
وبالرغم من التشابهات الكثيرة بين العملين إلا أن الدراسة ترصد عدة أوجه شبه واختلافات بينهما، فالأحلام تأخذ شكل القصة القصيرة جدا، بينما الأصداء تأخذ شكل السيرة الذاتية. أيضا جاءت الأحلام كدفقة شعورية واحدة، بينما الأصداء انقسمت إلى قسمين، أولهما يضم مقطوعات قصيرة تحمل أصداء السيرة، وثانيهما يضم سيرة ”عبدربه التائه” وفكره. كذلك تمت عنونة الأصداء بعناوين فرعية بينما خلت الأحلام من العناوين حيث اكتفى السارد بالتتابع والتسلسل الرقمي.
بعنوان “الرواية التاريخية: تمثل تجاوز للواقع من خلال الثلاثية التاريخية؟”، يدرس النابي روايات عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة، في ظل السياقين التاريخي والثقافي اللذين أنتجت فيهما الروايات، بحثا عن دلالة اختيار حادثة تاريخية ما لبناء نص روائي. ويلاحظ الباحث أن تلك الروايات كتبت بعد الحرب العالمية الثانية التي أسفرت عن توسيع مظلة الاحتلال بالرغم من ظهور بوادر الحركات التحررية، في ذات الوقت كان النظام الملكي في مصر يمثل عبئا على الشعب من خلال تحالفاته مع القوى الاستعمارية ضد الحركات الوطنية.
هذا السياق شكل خلفية لما يريد قوله نجيب محفوظ المعبأ بأيديولوجيا ثورة 1919، فتبنى في الروايات فكرة الخلاص، لذا قدم في ”عبث الأقدار” الكثير من صفات الحاكم الإيجابية كما تجلت في صورة الملك خوفو، وفي رادوبيس يقدم الملك العابث “مرن رع″ في موازاة مع الملك الشاب فاروق، فكلاهما يجأر ”أريد أن أتمتع بحياة سعيدة، أيجوز أن تعذبني رغباتي كالفقراء؟”
وجاءت “كفاح طيبة” لتستعيد الروح المصرية بأكثر من معنى، حتى أن الدكتور عبدالمحسن بدر رأى أن علاقتها بمصر المعاصرة تفوق ارتباطها بمصر القديمة، فالروايات برفضها للفساد ودعوتها للخلاص تجاوزت سياقها التاريخي بعكس أحداثه على الواقع، وهكذا تتجاوزه ولا تكتفي بتمثله بكل ما تحمل من دلالات مرجعية.
لعل اتساع الرؤى وتعدد الدلالات هما ما يدفع الباحثين والنقاد إلى المغامرة، فرغم وفرة المقاربات التي تناولت عالم محفوظ إلا أن ثمة حافزا دائما لإعادة القراءة وفق ما يجدّ من سياقات، وقد أقدم النابي على هذه المغامرة التي وصفها بأنها “محفوفة بالمخاطر”، في كتابه السابق ”الذاكرة والنسيان”، وكما ورد في مقدمة الكتاب فإن إبداعات نجيب محفوظ ظلت وتظل “بمثابة الذَّاكِرة الحيَّة والأمينة، على تاريخنا الوطني بنضالاته وإخفاقاته وانتصاراته، وبتغير أو انحراف مساراته”.
كما ظلّت هذه الإبداعات على تنوعها وثرائها بمثابة حائط الصد المقاوم لتغريب الهُوية وطمسها في بعض حالاتها على نحو ما كانت الثلاثيّة الاجتماعيّة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، وقبلها الثلاثيّة التاريخيّة (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة)، شاهدة على النسيج الوطني وتكاتفه من أجل هدف وحيد هو الاستقلال والحصول على الحرية، وأيضا إكسيرا مقاوما للنسيان، لكلِّ شيءٍ بدءا مِن ذاكرتنا وانتهاء بنكران الجميل.
تجاور الرؤى
يرى الكاتب أن القارئ لأعمال محفوظ يفاجأ بالمستقبل يطل من بين جنباتها، بل إن رؤاه التي هدف إليها هي نفسها التي ينشغل بها المفكرون اليوم، كقضية الحرية التي ناقشتها رواياته منذ ”عبث الأقدار” وحتى ”أحلام فترة النقاهة”. ولعل وعيه بذلك وحرصه على اجتياز المغامرة النقدية بنجاح هما ما دفعه إلى عدم الركون إلى ما يمكن تسميته بالمسلمات النقدية في تعامله مع إبداعات محفوظ، فهو لم يكتف بالنص المحفوظي بل انطلق من النص إلى المقاربات النقدية له، وجعل من تجاور تلك الرؤى النقدية مرايا تعكس النص من زوايا ووجهات نظر مختلفة، وراح يشتبك معها وفق معطيات النص حمّال الأوجه، وفي ضوء قناعته بما يثيره النص المحفوظي من تأويلات وتفسيرات لا نهائية قد تتعارض أو تتناقض.
هكذا قرأ الناقد رواية ”الطريق” كنموذج خصب يمثل تلك التعددية الخصبة، فالرواية ومن خلال رحلة بحث الشخصية ”صابر الرحيمي” عن أبيه، تطرح إشكاليات متعددة، منها ما يتعلق بالقضايا التي تطرحها الرواية، ومنها ما يرتبط بتصنيف إبداعات محفوظ إلى مراحل مختلفة وتيارات متباينة، فالرواية تتقاطع مع ”الشحاذ” و“اللص والكلاب” وغيرهما، في طرح تساؤلات فلسفية عن اغتراب الإنسان وشعوره بالعدمية.
أما من حيث السياق القرائي النقدي فالرواية ووفقا لبعض المقاربات تنتمي إلى الواقعية النقدية، وثمة ملامح أليغورية تتحقق داخل النص تلحقه بالمدرسة الرمزية وتكشف عن رموز دينية (البحث عن الأب/ المخلص/ الإله) أو سياسية، حيث سلوك صابر الرحيمي للسبيل الخطأ أوقعه في مأساة هددت مصيره، ومع ربط الرواية بالسياق الثقافي الذي أنتجت فيه يمكن اعتبارها مقدمة تنبئ بكارثة 1967.
كذلك يمكن قراءة الطريق من منظور نفسي يربطها برواية “السراب”، من حيث علاقة بطلي الروايتين بالأب والأم. ويخصص الكاتب فصلا من كتابه لمعالجة رواية ”السراب” التي كاد يجمع نقادها على أن بطلها مصاب بعقدة أوديب، باستثناء مقاربة عبدالمحسن طه بدر، حيث قرأ الرواية من منظور واقعي اجتماعي واعتبر أزمة البطل “كامل رؤبة”، دليلا على تفسخ الأرستقراطيين ذوي الأصول التركية.
يربط النابي بين الرواية وبين سابقتيها “القاهرة الجديدة” و“خان الخليلي”، اللتين كانتا بمثابة استشراف لما حدث فيما بعد. وهكذا فطنت قراءة فراج النابي للتواشج بين روايات نجيب محفوظ القابلة للقراءات الجديدة، والمانحة دوما لدلالات جديدة، حتى يصدق القول إن ما كتبه محفوظ يتجاوز سياقه التاريخي إلى المستقبل بكل مآلاته.