لا أعرف كل شيء عن فؤاد حداد.
كل ما أعرفه عنه يعرفه ناس غيري.
ولست ابنه الوحيد ولا صديقه الوحيد.
لم أره طفلًا لكني رأيت صوره وسمعت حكايات عنه .. منه ومن جدتي وأخويه وقرأت في شعره لمحات من طفولته.
لم أره شابًا في الجامعة وفي الاجتماعات السرية للحزب ولا موظفًا في شركة التأمين ولا معتقلًا في زنزانة يُعذّب ويكتب شعرًا.
لم أر صور زواجه التي احترق فيلمها.
ولكننا عشنا معه في نفس البيت من أبريل ١٩٦٤ عندما خرج من المعتقل إلى يوم زواجي في سبتمبر ١٩٨٣.
وكنا معه يوم وفاته في أول نوفمبر ١٩٨٥.
يطلب مني كثيرون ان أكتب عنه.
وهو .. التفت لي مرة وانا أناقشه في شعره وقال : ستكتب عني كتابًا.
وأسأل الله دائمًا أن يمد في عمري حتى أحقق نبوءته التي اعتبرتها طلبًا.
ولكني أخاف ان أقدم على هذا الكتاب.
كتبت مرة مقدمة لكتابه "أيام العجب والموت" واستكتبني الأديب محمود الورداني مرة أخرى في أخبار الأدب في عدد خاص عنه.
وكتبت قصائد رثاء له وذكرته في مواضع كثيرة في كتاب جزيرة الأحياء.
وانا هنا وهناك لا أكتب عنه ولكن عن نفسي وعن تأثيره علي. على حياتي. كيف أصبحت شاعرًا بسببه. وكيف أسعدني بهداياه الهائلة وكيف ربطني ووضع فوق كتفي أحمالًا أرهقتني ولكن ثبتتني في الأرض وثبتت إيماني بالله وبدوري في الحياة وواجبي تجاه بلدي وأسرتي.
في عام وفاته قام بعمل أمسية "الحمل الفلسطيني" على مسرح السلام بشارع القصر العيني. وكان الشكل الذي اختاره هو شكل السامر الشعبي. يرجع إلى أصوله العربية والشعبية دائمًا ويطورها.
هذا هو الشكل الذي قدم به أمسياته وحكاياته في معتقل الواحات.
هو راوٍ يجلس في وسط المسرح ببدلة زرقاء (كحلي) وقميص أبيض مقفولة أزراره حتى عنقه وعلى كتفه الأيسر كوفية حمراء (نبيتي) وعلى يساره ويمينه شاب وشابة (حسن حداد وبسمة الحسيني) يقفان على جانبي المسرح.
ويقف خلف فؤاد حداد مجموعة من الأطفال وخلف "حسن" عازف أكورديون وعازف إيقاع وخلف "بسمة" كورال يغني ويلقي شعرًا جماعيًا كالكورس الإغريقي.
وكان المسؤول عن إخراج الأمسية وتنفيذها المخرج أحمد إسماعيل تحت إشراف المسرح المتجول برئاسة الأستاذ عبد الغفار عودة.
كانت أمسية عظيمة ومختلفة عن شكل الأمسيات الشعرية وكل من حضرها أثرت فيه وفي وجدانه.
بدأت الأمسية بغناء الأطفال ومازال صوت الأطفال يملأ الكون وهو يصدح بأغنية سيد مكاوي:
ولا في قلبي ولا عينيا
إلا فلسطين
وانا العطشان ماليش مية
إلا فلسطين
ولا تشيل أرض رجليا
وتنقل خطوتي الجاية
إلا فلسطين.
كأن الأطفال يقولون إننا نحمل قضية فلسطين إلى المستقبل. قضية عادلة ولن تموت.
بدأوا الأمسية وكرروا مطلع الأغنية بعد كل مجموعة قصائد. ثم أنهوا الأمسية بالأغنية كاملة مع تصفيق الحضور.
وبين غنائهم ينشد فؤاد حداد والشابان والكورال قصائد الأرض بتتكلم عربي ومسحراتي القدس والنبض وحلم طفل حزين وحيكون يوم زي الفاتح من شهر نوفمبر والدنيا كل الدنيا حتكبر في صف واحد من تمام الصلاة.
يزرع الأمل ويستنفر الهمم و"زرع الأمل والأماني له تاريخ وأصول" ومن مثل فؤاد حداد في زرع الأمل وهو القائل"أنا في اختراع الأمل صاحب عشر براءات"
ثم عاد وكرر الأمسية في مسرح الجمهورية. ولم يتمكن حسن من الإلقاء معه لانشغاله في الثانوية العامة فكنت أنا البديل.
ثم قدم أمسية أخرى بعدها على مسرح الجمهورية بعنوان "أبناء بلد واحدة تحت السما الواحدة ... في نور الأدان" واشتركت أنا وبسمة الحسيني والكورال الذي سماه فؤاد حداد كورال المطابع لأنهم كانوا من عمال مطابع روز اليوسف وغنوا وقتها أغنيتين هما "أول كلامي سلام" لسيد مكاوي و"في كل حي ولد عترة" لعبد العظيم عويضة.
كانت الأمسية الأخيرة له وكانت من جزءين وينتهي الجزء الأول بقصيدة "مذهب أغاني النديم" وفي وسط القصيدة يقف فؤاد حداد متجهًا نحوي لننشد سويًا:
من أول ما صبحت صباحها
قمت أنادى فى عرض براحها
ألم جراحها
أزحزح طوبه من مطرحها
أشق رياحها أعلى جناحها
سر الأرض عرق فلاحها
عمدة مصر المصرى عرابى
كل ولاد الدنيا تشابى
ع الحريه على الحريه
هذه الكلمات كانت تتردد في أذني كلما شاهدت شباب مصر يهتفون "عيش حرية عدالة اجتماعية" في ثورة يناير العظيمة.
نقش فؤاد حداد هذا الكلام في قلبي وعلى جدران الزمن ومازلت أحس بسعادة غامرة كلما رأيتني في الصور إلى جانبه ننشد سويًا أو أنشد معه كلامه العظيم.
وأعترف أن اقترابي منه زاد أضعاف المرات بعد هذه الأمسية وكنت أنظر له في الاستراحة وهو ممدد يضع "حباية تحت اللسان" وأقول سوف أتعذب كثيرًا بعد رحيلك يا أبي.
ومات فؤاد حداد
وقررنا إعادة أمسياته في ذكراه وقمت انا بدور الراوي واقفًا بعد إعادة توزيع الأدوار بيننا (حسن وبسمة وأنا) وقمنا بتوسيع مساحة الغناء.
واشتركت بعد ذلك بالإعداد والإلقاء في عشرات الأمسيات المبنية على الشكل الذي أهدانا إياه فؤاد حداد. واشترك فيها كثيرون غيري وغير بسمة وحسن حداد وكورال المطابع وأحمد إسماعيل والملحن محمد عزت ويوسف إسماعيل ورشدي الشامي وعهدي صادق وبهاء جاهين ومحمد بهجت والملحن إبراهيم رجب ومحمود حميدة وممدوح عبد العليم وأحمد فؤاد سليم وسامية جاهين وآية حميدة واحمد حداد والملحن حازم شاهين وفرقة إسكندريلا وآخرون.
كانت الأمسيات إحدى هدايا فؤاد حداد لنا. ترك لنا شكلًا وإطارًا وشعرًا كثيرًا وقال لنا "يلا". فانهمكنا في اللعبة الجديدة بشعره وشعر صلاح چاهين وبيرم التونسي وبهاء وأحمد وانا. وما زلنا نلعب.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق