رواية رسالة البصائر في المصائر نموذجا
تمر هذه الايام الذكرى الثالثة لرحيل الاديب والروائي والكاتب الكبير جمال الغيطاني ، الذي رحل عن عالمنا في 18 اكتوبر 2015 ، ولد جمال الغيطاني في 9 مايو 1945 ، في قرية جهينة بمحافظة سوهاج. نشأ في القاهرة القديمة، حيث عاشت الأسرة في منطقة الجمالية، ثم التحق بمدرسة العباسية الثانوية الفنية التي درس بها ثلاث سنوات فن تصميم السجاد الشرقي وصباغة الألوان. ثم تخرج عام 1962، وعمل في المؤسسة العامة للتعاون الانتاجي رساما للسجاد الشرقي، ومفتشا على مصانع السجاد الصغيرة في قرى مصر، أتاح له ذلك زيارة معظم أنحاء ومقاطعات مصر في الوجهين القبلي والبحري. في عام 1963 ، بدأ العمل في الصحافة عام 1969 في جريدة أخبار اليوم بعد ظهور مجموعته القصصية الأولى(أوراق شاب عاش منذ الف عام) ، ثم بدأ يتردد على جبهة القتال بين مصر واسرائيل بعد نكسة 67 ، ، وكتب عدة تحقيقات صحفية تقرر بعدها تفرغه للعمل كمحرر عسكري لجريدة الأخبار المصرية، وشغل هذا العمل حتى عام 1976. شهد خلالها حرب الاستنزاف 1969 – 1970 على الجبهة المصرية، وحرب أكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية. ثم زار فيما بعد بعض مناطق الصراع في الوطن العربي ، مثل شمال العراق عام 1975، ولبنان 1980، والجبهة العراقية خلال الحرب مع إيران (عام 1980- 1988).
يتضمن ادب جمال الغيطاني موقفه من التطورات الاجتماعية والسياسية التي وقعت في مصر والعالم العربي في العقود الاربعة الاخيرة من القرن العشرين. .
ويبدو ادب الحرب حاضرا في قلب اعمال جمال الغيطاني الأدبية خاصة لعمله مراسلا عسكريا في الفترة التي سبقت حرب اكتوبر . كما يظهر اهتمامه ببطولات المعركة في العديد من مجموعاته القصصية ورواياته ومنها " ارض ارض " .. حكايات الغريب " والتي تحولت لفيلم سينمائي عن بطولات مصرية اثناء حصار مدينة السويس في حرب 73 .
كما أخرج كتابا عن "المصريون والحرب" والذي احتوى على حوارات مهمة مع عدد من المقاتلين المصريين. ويمكن القول أن اهم ما كتبه في هذه الحقبة هي رواية "الرفاعي" التي حكى فيها قصة قائد الصاعقة المصرية الجسور الذي كان يسبق جنوده في العبور إلى سيناء المحتلة، ويعود بعدد من الأسرى الإسرائيليين لتحطيم أسطورة العدو الذي لا يقهر.
يقول الكاتب الراحل السيد يسين عن الرواية التي نناقشها رسالة البصائر في المصائر " أن انصراف "الغيطاني" إلى الكتابة الفلسفية في "التجليات" لم تمنعه أن يمارس دور الناقد الاجتماعي للتفكك الاجتماعي وانهيار القيم بعد سياسة الانفتاح التي أعلنها الرئيس أنور السادات.
فقد أصدر في روايات الهلال مجموعة قصص بعنوان "رسالة البصائر في المصائر". وقد اهتممت بهذه المجموعة اهتماما خاصا الى درجة أنني قمت بدراسة خاصة عنها نشرتها في الطبعة الثالثة لكتابي "التحليل الاجتماعي للأدب" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1970 ".
وتدور هذه الرواية حول مصائر عدد من الشخصيات ، التي يعرض حكاياتها الكاتب في اوقات مختلفة واغلبها في فترة السبعينات وهي الفترة التي شهدت تحولات سياسية عميقة في الداخل المصري وتحالفات سياسية مختلفة مع الدول الكبرى ورهانات معاكسة للحقبة الناصرية من قبل الرئيس الاسبق انور السادات. التي بدأت عقب حرب اكتوبر ، واتفاقيات فض الاشتباك عام 1974 ، ثم زيارة الرئيس السادات للقدس ومباحثات كامب ديفيد ، كل ما تلاها من خيارات تفاوضية .
كما تمثل هذه الراوية نقدا لما شهده الكاتب من تعاظم عمل المصريين في بلدان الخليج سعيا وراء الرزق ، وتعاظم ظاهرة الكفيل الخليجي للعمالة المصرية والعربية ، ونقدا للافتات الثورية الشكلية من بعض النظم المسماة بالثورية في ظل هذه الفترة ويمثلها النموذج الليبي على سبيل المثال.
وتضم الرواية 7 حكايات رئيسية منها حكاية حارس الاثر وهو حارث جامع السلطان قلاوون ، ويبدو الكاتب مبهورا بالقاهرة الفاطمية واثارها المختفة .
وتحكي الحكاية الثانية ما جرى للشاب الذي اصبح فندقيا و الشاب هنا خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والذي كان والده يحلم بدخوله السلك الدبلوماسي ، ولكنه لم ينجح في ذلك لانه ليس له واسطة ، ثم شغل عملا بأاحد الفنادق يشبه التسويق ، وهو الامر الذي انتهى به إلى الاستغلال التجاري والجنسي من قبل اصحاب الفندق الذي انشأه مستثمرون دوليون بمشاركة مصرية ، وتعرض للاستغلال من قبل بعض السيدات الثريات بالفندق بمعرفة مسئولي الفندق ، ثم كاد ان يتعرض لاستغلال جنسي من قبل احد اثرياء الخليج ، وبعد رفضه تعرض لاتهامه بالسرقة .
ويمتد تناول الغيطاني لهذه الظاهرة ونقده لها في الحكاية الأخيرة المسماة "بما جرى من كفيله" ، وما جرى لاحد المواطنين السوريين قبله من محاولة شيخ عربي ممارسة الجنس مع ابنه . في " وفيما يلي ما جرى للحلبي " الذي تعرض لنزع كفالته من صاحب محل حلوى ، بعدها ذهب لاحد الشيوخ الذي امن كفالته ، وتقرب منه ومن اسرته زوجته واولاده ، وبعد محاولة استغلال ابنه الوسيم من قبل الشيخ الكفيل قام بقتله ، ثم تعرض هو لفصل عنقه عن جسده واغتصاب امبنه .
وتعرض الحكاية الثالثة كل التطورات السياسية التي عاشتها مصر ما بعد حرب اكتوبر ، بما فيها نشأة ظاهرة الانفتاح الاقتصادي وفتح الباب للاستمثمار في كل شئ واي شئ ، والفساد الذي ظهر وغسيل الأموال وممارسة انشطة احرامية وراء بعض الشركات ، وهي حكاية " ما جرى للمحارب الذي تقاعد" .
وهو الضابط المتخصص في هندسة الاتصالات الذي تقاعد في سن الـ 46 في اعقاب حرب اكتوبر برتبة عميد ، وهو التقاعد المفاجئ الذي نقله من حال إلى حال، في ظل معاش لن يصبح كافيا لحياة اسرته ، زوجة و 3 بنات وابن . هو الذي شهد ثورة يوليو وكان برتبة ملازم كما شهد حرب السويس ، وحرب اليمن وكاد ان يقتل فيها ، وشهد كذلك حربي 67 و1973 ، وهو الذي لم يكلف بمهمة الا انجزها .، وتسوقه الاقدار بعد تقاعده للعمل مديرا في شركة مقاولات بواسطة من خال زوجته ، هي شركة "مقبلكو للانشاءات والمقاولات" نشاطها ستار لتجارة المخدرات والتهريب . كما تروى الحكاية قصة صديقه الضابط القديم الذي تقاعد قبله ، وتقول شخصية المحارب " ولكم تبدلت المعاني ، واختلف مضمون القضايا ، قذف به في زمن مفترض ، مباغت ، يمت الى اخرين ولا يدركه ، فما اوعر الغربة ، بعض ما يقروه يثير عجبه ، واستنكاره بداية ، لكن تكرارها اورثه تعبا وضنى ، احيانا تستفزه سطور ما فيشرع في صياغة رد أو توضيح ، او تعليق ، غير انه لا يقدم ، لا يكمل ، ماذا بقى ؟ حتى ما بدا يوما في منزلة الرفعة والتقديس لم يعد بمنأى عن المس ، العقيد المتقاعد لم يتصل به ولا يسعى اليه ، في اخر اتصال بدا مرتبكا ، محرجا ، قال انه يتعرض لضغوط شى ، ثم غاب عنه ، "ص 151".
وهذه قصة مقاتل اخر في الحرب " وفي ظهر السبت سادس اكتوبر طابت نفسه وانتابته مشاعر شى ، كان موقعه قريبا من غرفة العمليات الرئيسية ، الا انه سعى إلى الخروج في مهمة عبر خلالها قناة السويس ، كان يردد دائما انه اقصى ما يتمناه المحارب خوض المعركة قبل غروب العمر ، وقد شهد ما سعى من اجله دائما ، ما اعد له دوما ، وما بذل له الشباب والخدمة ." وهذا نبأ الطوبجي " ص 164 "
الا ان خدمته لم تدم طويلا بعد انتهاء الحرب ، وتوقيع الاتفاقيات ، كان داخله يقين خفى ، غير مستند إلى معلومات دقيقة ، اواستقراءات ، او تحليلات ، ان ما كان لن يكون ، وان ما سيكون ليس ما كان ، ان رياحا جديدة تهب ، وان تغييرا سيقع ، التيار شديد ، يحيد بعيدا ، بعد سنة من انتهاء الحرب ، وعندما حان موعد ترقيته ، رقى إلى رتبة لواء ، لكن صحب ذلك احالته إلى التقاعد . وهو هنا يبدو ان الغيطاني يشير إلى هذا التغير في المواقف السياسية من قبل نظام السادات خاصة في علاقته الجديدة بالعدو الاسرائيلي وتحوله إلى صديق
وتعرض الحكاية الرابعة نبأ الخطاط الذي راج امره في الغربة ، وهو الخطاط الفقير الذي عاني شظف العيش في وسط اسرته الفقيرة في حي الدرب الاحمر ثم عمل في محل خطاط بالعتبة ، وبعد وفاة صاحب المحل تم طرده من اسرة صاحب المحل ، الذي فتحه لنشاط تجارة الأجهزة الكهربائية . وسافر الخطاط إلى دولة عربية يبدو انها كانت تقدم في نهاية الستينيات نموذج لاحد النظم الثورية العربية.ويبدو انه يقصد ليبيا دون ان يذكرها . ووجد رزقا وفيرا ، بسببه كتابة لافتات الدعاية لزعيم الدولة ، وتميزه خطوطه .
وفي حكاية نزيف " يروى اقصوصة مهندس المطابع الذي سافر وعمل بدولة عربية تتبنى السياسات الثورية ، ويبدو انه يقصد ليبيا مرة اخرى ، وتشير القصة إلى موقف الدولة الغاضب من زيارة السادات للقدس ، وانعكاس ذلك على موقف اهلها من لامصريين .
" عندما يرى رئيس البلاد يخرج من بطن الطائرة إلى مطار اللد ، لم يصدق عينيه ، اهتز باكيا ، وتدرردت في وعيه فكرة موجزة ، انتهى دهر ، انتهى عصر، راح عهد وجاء عهد ، ما زال محتفظا بكراساته التي رسم على صفحتها ابطال الجيش المصري اثناء حربهم في فلسطين، اهكذا . اهكذا ببساطة ؟
فيما بعد لن ينس خرجة السادات من بطن الطائرة ت لفته مضطربا حوله ، تمنى في هذه اللحظة ان يجرى شئ ما ، امر خارق ، فيتختفى أو يتلاشى ، لكن كل التفاصيل علقت بذاكرته ، حتى هذا الضابط الاسرائيلي ، كان يشمر كمي سترته ، ويمشى مزهوا مختالا وراء الرئيس!!!ص 284 " .
ثم تأتي حكاية المدرسة التي اتمت مدة الاعارة إلى دولة خليجية لتحويش ما تقدر عليها ، لمدة 7 سنوات ، وتعرضها للاغراء من قبل احدى زميلااتها بالمدرسة لنقل كيس هيرويين للقاهرة مقابل مليون جنيه .
ويقول الغيطاني في مقدمته غير التقليدية للرواية " اعلموا ان ما مر بنا ثقيل ، وان ما عرفناه مضن ، وما قاسيناه صعب مر . هذه السبعينايات من زماننا الكدر عقد انقلاب احال وامور غريبة وبلايا ثقيلة وتحولات شملت جل القوم ، كذا ما تلاها ، وقد عاينت ذلك ، قاسيته ، تضاعف همي ، ناء وقتي بما عرفته".
ثم يقول مرة اخرى" يا من ستقع ابصاركم على تدويني ، اعلموا ان انشغالي بالمصائر قديم ، موغل في ممنوني ، عندما كنت صبيا غضا بعد ، لا اعي وقع مرور الأزمنة ، ولا يطرقني هاجس الموت ، او القوت ، كنت اتطلع إلى اقراني سائلا نفسي : اين سيكون كل منهم بعد عشر سنوات او بعد عشرين ؟ .
لم يغب ادب الغيطاني سواء في رواياته أو حتى مقالاته في جريدة الأخبار عن تناول كل التطورات التي شهدتها مصر منذ منتصف السبعينات حتى الأن بدءا بزيارة القدس ثم ما سمي بالانفتاح الاقتصادي والعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة الامريكية ، وحتى التطورات الاجتماعية وابرزها هجرة المصريين لبلدان النفط بحثا عن الرزق والمصير الذي الت اليه اوضاعهم الاسرية بسبب غيابهم عن اسرهم فترات طويلة والاغتراب الذي باتوا يشعرون به سواء خارج البلاد أو داخلها ، حتى موقفه الغيطاني للاستبداد سواء باسم الثورة أو باسم الدين كان واضحا سواء في هذه الرواية ، كما كان واضحا في رفضه لجماعة الاخوان بعد توليها السلطة في اعقاب ثورة 25 يناير 2011 .