مقدمة الكتاب .. بقلم عبدالخالق فاروق
عندما تثار قضية الفساد فى مصر _ أو فى غيرها من بلاد الدنيا – ينقسم الرأي العام عادة بين تيارين رئيسيين ، يعبر كل منهما عن رؤية أحيانا ، أو عن مصالح مختلفة أحيانا أخرى .
فأغلبية الرأي العام الساحقة التى تعانى من تدهور مستويات معيشتها تشكل مظاهر الفساد المتفشية تحديا لمشاعرها ، واستفزازا لوجدانها ، وهى بهذا تنظر إلى هذه الممارسات الفاسدة باعتبارها جرائم اقتصادية وأخلاقية قبل أن تتوقف عند مضامينها السياسية والثقافية .
أما التيار الثاني – والذي يمثله رجال المال والأعمال ودوائر رسم وصنع السياسات والقرارات وبعض الدوائر الإعلامية والصحفية المرتبطة بهم – فتروج لمفهوم مختلف ينطلق من مقولة أن " الفساد موجود فى كل الدنيا " ، وأن هذه الممارسات الفاسدة هى جزء من اقتصاد الدول الحديثة ، أو أن هذه الممارسات ذات طبيعة فردية وشخصية ، وإنها الاستثناء الذى لا يلغى القاعدة العامة التي هى سليمة وصحيحة وأن " كل شيء تمام ".
والآن .. علينا أن نتساءل ما هو وجه الصحة فى موقف هؤلاء أو أولئك ؟
المفاهيم .. الآليات .. النتائج
دعونا أذن نبدأ من البداية بطرح عدد من الأسئلة الضرورية ومحاولة الإجابة عنها :
أولا : ما هو الفساد ؟
عندما زادت ممارسات الفساد فى كثير من دول العالم ، خاصة منذ منتصف السبعينات فى الدول النامية ، تجمع عدد من الخبراء الاقتصاديين ورجال القانون الدوليين ، وفى طليعتهم المحامى النيوزيلاندى " جيرمى بوب " والألمانى " بيتر إيغين " وقاموا – وبتمويل من مؤسسة فورد الأمريكية – بتأسيس ما سمي " منظمة الشفافية الدولية " عام 1994 .
وحاول هؤلاء على مدار خمسة سنوات صياغة موقف دولى صادر من منظمات المجتمع المدني الدولي ، تجاه هذه الظاهرة التى باتت تدمر أسس التنافس الحر المبنى على وضع المعايير وشفافيتها(1) .
فمقدمة الكتاب
عندما تثار قضية الفساد فى مصر _ أو فى غيرها من بلاد الدنيا – ينقسم الرأي العام عادة بين تيارين رئيسيين ، يعبر كل منهما عن رؤية أحيانا ، أو عن مصالح مختلفة أحيانا أخرى .
فأغلبية الرأي العام الساحقة التى تعانى من تدهور مستويات معيشتها تشكل مظاهر الفساد المتفشية تحديا لمشاعرها ، واستفزازا لوجدانها ، وهى بهذا تنظر إلى هذه الممارسات الفاسدة باعتبارها جرائم اقتصادية وأخلاقية قبل أن تتوقف عند مضامينها السياسية والثقافية .
أما التيار الثاني – والذي يمثله رجال المال والأعمال ودوائر رسم وصنع السياسات والقرارات وبعض الدوائر الإعلامية والصحفية المرتبطة بهم – فتروج لمفهوم مختلف ينطلق من مقولة أن " الفساد موجود فى كل الدنيا " ، وأن هذه الممارسات الفاسدة هى جزء من اقتصاد الدول الحديثة ، أو أن هذه الممارسات ذات طبيعة فردية وشخصية ، وإنها الاستثناء الذى لا يلغى القاعدة العامة التي هى سليمة وصحيحة وأن " كل شيء تمام ".
والآن .. علينا أن نتساءل ما هو وجه الصحة فى موقف هؤلاء أو أولئك ؟
المفاهيم .. الآليات .. النتائج
دعونا أذن نبدأ من البداية بطرح عدد من الأسئلة الضرورية ومحاولة الإجابة عنها :
أولا : ما هو الفساد ؟
عندما زادت ممارسات الفساد فى كثير من دول العالم ، خاصة منذ منتصف السبعينات فى الدول النامية ، تجمع عدد من الخبراء الاقتصاديين ورجال القانون الدوليين ، وفى طليعتهم المحامى النيوزيلاندى " جيرمى بوب " والألمانى " بيتر إيغين " وقاموا – وبتمويل من مؤسسة فورد الأمريكية – بتأسيس ما سمي " منظمة الشفافية الدولية " عام 1994 .
وحاول هؤلاء على مدار خمسة سنوات صياغة موقف دولى صادر من منظمات المجتمع المدني الدولي ، تجاه هذه الظاهرة التى باتت تدمر أسس التنافس الحر المبنى على وضع المعايير وشفافيتها(1) .
فالفساد علاوة عن كونه ممارسة من جانب الأثرياء عادة ، والمتنفذين فى الأجهزة الحكومية والشركات الكبرى محلية كانت أو دولية ، فهو أيضا ترسيخ لواقع الظلم الاجتماعي ، وأداة من أدوات الاستقطاب الاجتماعي والطبقي ، ليس على أسس الجدارة الاقتصادية والمهنية ، وإنما على أسس أخرى مثل استغلال النفوذ والتعسف فى استخدام السلطة التنفيذية ، أو حتى سلطة التشريع أو استخدام منصات القضاء فى غير محلها المرسوم فى القوانين والدساتير المختلفة للدول ، ومع استمرار وتزايد أنماط الفساد دون مقاومة حقيقية مؤثرة من الشرفاء ومنظمات المجتمع المدنى ، سيؤدى لا محالة إلى تحوله إلى نمط عام وسلوك واسع الانتشار ، ليس بين الطبقات العليا فحسب ، وإنما إلى ما دون ذلك من فئات اجتماعية مما يهدد مجمل فكرة " حكم القانون " ليتحول المجتمع إلى ما يشبه الغابة دون قواعد تحكم السلوك ، ودون أخلاق تنظم العلاقات ، وبتفشي " ثقافة الفساد " نصبح أمام كارثة مجتمعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى .
وقد عرفت منظمة الشفافية الدولية فى بداية عهدها الفساد بأنه ( سوء استخدام السلطة الممنوحة من أجل تحقيق منفعة خاصة ) . بيد أن هذا التعريف لم يكن شاملا أو جامعا ، لذا فقد عادت المنظمة فى وقت متأخر ، وتحت تأثير اجتهادات عدد من الباحثين – مثل " سوزان روز أكرمان " Suzan rose-Ackerman – لتعرفه بأنه ( السلوك الذى يمارسه المسئولون فى القطاع العام أو القطاع الحكومي ، سواء كانوا سياسيين أو موظفين مدنيين بهدف إثراء أنفسهم أو أقربائهم بصورة غير قانونية ومن خلال إساءة استخدام السلطة الممنوحة لهم ) (2) .
أما قانون العقوبات الفرنسي فقد ميز بين ما أسماه " الفساد النشط " و " الفساد السلبي " فعرف الأول بأنه ( سعى الموظف الحكومي بنشاط من أجل الحصول على هدية أو منفعة أو رشوة قبل تقديمه الخدمة أو منح العقد ) أما الفساد السلبي فقد عرفه بأنه ( قبول المسئول لهدية أو مكافأة أخرى بعد منح العقد أو تقديم الخدمة ) .
وفى قانون العقوبات المصري نصت المادة ( 103 مكرر) على تعريف المرتشي بأنه ( كل موظف عمومي يطلب لنفسه أو لغيرة أو قبل أو أخذ وعدا أو عطية لأداء عمل يعتقد خطأ أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه ) (3) . لكن تطور الحياة الاقتصادية فى مصر ، وفى غيرها من الدول والمجتمعات منذ منتصف السبعينات ، قد أوجد أشكالا جديدة وعديدة للفساد ، فلم تعد الرشوة أو الاختلاس هما مظاهرها الوحيدة ، بل هناك عشرات السلوكيات والممارسات التى تندرج فى توصيف الفساد بالمعنى القانوني والأخلاقي للكلمة (4)
وعلى صعيد النظرية الاقتصادية ، انشغل العقل الاقتصادي بقضية الفساد ، واحتلت جانبا من النظرية الاقتصادية الحديثة ، وكذا فى الدراسات الاقتصادية التطبيقية ، وبرز بنتائج هذا الاهتمام ما يسمى فى النظرية الاقتصادية " بالاقتصاد الخفي " hidden economy أو الاقتصاد الأسود black economy ، وتعنى تلك الأنشطة المالية أو الاقتصادية التى تجرى فى الخفاء وتخالف القوانين المعمول بها ، وعادة ما لا تجد طريقة ما لتسجيلها فى سجلات الحسابات القومية national accounts ، ومن ثم فهى لا تتضمن داخل مصفوفة الدخل القومي الرسمي national income matrix برغم أهميتها وثقلها فى صيرورة التدفقات المالية والنقدية فى البلاد (5) .
كما برزت على ضفاف هذا الإطار النظرى الجديد مفاهيم إضافية مثل دخول الظل shadow income والتى تتمثل فى الدخول النقدية التى يحصل عليها بعض الأفراد أو الجماعات – وغالبيتهم من الموظفين فى المصالح الحكومية – بصورة غير قانونية مثل الدروس الخصوصية أو الأعمال الموازية أثناء وقت العمل الرسمي – مثل قيادة سيارات التاكسي أو أنشطة تجارية أو غيرها – ويندرج بها أيضا الحصول على الإكراميات والرشاوى نظير أداء أعمالهم أو التبرع للقيام بهذه الأعمال .. الخ (6) .
وقد أدت السياسات الحكومية فى مجال الأجور والمرتبات ، إلى انتشار هذه الممارسات بحيث أصبح لدينا ما يمكن أن نسميه " المرافق الموازية " أو غير الرسمية مقابل الأجهزة الحكومية الرسمية ، مثل خدمات التعليم والصحة والشرطة والأمن والمحاكم ومكاتب التوثيق والشهر العقاري والمرور وغيرها (7) .
وقد دفعت هذه الظواهر المتنامية ، بعض المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، إلى دراسة هذه الظاهرة الاقتصادية والمالية ، ففى عام 1998 أعد مجموعة خبراء بصندوق النقد الدولي I.M.F حول موضوع الاقتصاد الخفى على مستوى العالم ، وقدرتها الدراسة بنحو 9 تريليون دولار أى ما يعادل 23% من الناتج المحلى العالمي الذي بلغ ذلك العام 39 تريليون دولار (8) . ، وأداة من أدوات الاستقطاب الاجتماعي والطبقي ، ليس على أسس الجدارة الاقتصادية والمهنية ، وإنما على أسس أخرى مثل استغلال النفوذ والتعسف فى استخدام السلطة التنفيذية ، أو حتى سلطة التشريع أو استخدام منصات القضاء فى غير محلها المرسوم فى القوانين والدساتير المختلفة للدول ، ومع استمرار وتزايد أنماط الفساد دون مقاومة حقيقية مؤثرة من الشرفاء ومنظمات المجتمع المدنى ، سيؤدى لا محالة إلى تحوله إلى نمط عام وسلوك واسع الانتشار ، ليس بين الطبقات العليا فحسب ، وإنما إلى ما دون ذلك من فئات اجتماعية مما يهدد مجمل فكرة " حكم القانون " ليتحول المجتمع إلى ما يشبه الغابة دون قواعد تحكم السلوك ، ودون أخلاق تنظم العلاقات ، وبتفشي " ثقافة الفساد " نصبح أمام كارثة مجتمعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى .
وقد عرفت منظمة الشفافية الدولية فى بداية عهدها الفساد بأنه ( سوء استخدام السلطة الممنوحة من أجل تحقيق منفعة خاصة ) . بيد أن هذا التعريف لم يكن شاملا أو جامعا ، لذا فقد عادت المنظمة فى وقت متأخر ، وتحت تأثير اجتهادات عدد من الباحثين – مثل " سوزان روز أكرمان " Suzan rose-Ackerman – لتعرفه بأنه ( السلوك الذى يمارسه المسئولون فى القطاع العام أو القطاع الحكومي ، سواء كانوا سياسيين أو موظفين مدنيين بهدف إثراء أنفسهم أو أقربائهم بصورة غير قانونية ومن خلال إساءة استخدام السلطة الممنوحة لهم ) (2) .
أما قانون العقوبات الفرنسي فقد ميز بين ما أسماه " الفساد النشط " و " الفساد السلبي " فعرف الأول بأنه ( سعى الموظف الحكومي بنشاط من أجل الحصول على هدية أو منفعة أو رشوة قبل تقديمه الخدمة أو منح العقد ) أما الفساد السلبي فقد عرفه بأنه ( قبول المسئول لهدية أو مكافأة أخرى بعد منح العقد أو تقديم الخدمة ) .
وفى قانون العقوبات المصري نصت المادة ( 103 مكرر) على تعريف المرتشي بأنه ( كل موظف عمومي يطلب لنفسه أو لغيرة أو قبل أو أخذ وعدا أو عطية لأداء عمل يعتقد خطأ أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه ) (3) . لكن تطور الحياة الاقتصادية فى مصر ، وفى غيرها من الدول والمجتمعات منذ منتصف السبعينات ، قد أوجد أشكالا جديدة وعديدة للفساد ، فلم تعد الرشوة أو الاختلاس هما مظاهرها الوحيدة ، بل هناك عشرات السلوكيات والممارسات التى تندرج فى توصيف الفساد بالمعنى القانوني والأخلاقي للكلمة (4)
وعلى صعيد النظرية الاقتصادية ، انشغل العقل الاقتصادي بقضية الفساد ، واحتلت جانبا من النظرية الاقتصادية الحديثة ، وكذا فى الدراسات الاقتصادية التطبيقية ، وبرز بنتائج هذا الاهتمام ما يسمى فى النظرية الاقتصادية " بالاقتصاد الخفي " hidden economy أو الاقتصاد الأسود black economy ، وتعنى تلك الأنشطة المالية أو الاقتصادية التى تجرى فى الخفاء وتخالف القوانين المعمول بها ، وعادة ما لا تجد طريقة ما لتسجيلها فى سجلات الحسابات القومية national accounts ، ومن ثم فهى لا تتضمن داخل مصفوفة الدخل القومي الرسمي national income matrix برغم أهميتها وثقلها فى صيرورة التدفقات المالية والنقدية فى البلاد (5) .
كما برزت على ضفاف هذا الإطار النظرى الجديد مفاهيم إضافية مثل دخول الظل shadow income والتى تتمثل فى الدخول النقدية التى يحصل عليها بعض الأفراد أو الجماعات – وغالبيتهم من الموظفين فى المصالح الحكومية – بصورة غير قانونية مثل الدروس الخصوصية أو الأعمال الموازية أثناء وقت العمل الرسمي – مثل قيادة سيارات التاكسي أو أنشطة تجارية أو غيرها – ويندرج بها أيضا الحصول على الإكراميات والرشاوى نظير أداء أعمالهم أو التبرع للقيام بهذه الأعمال .. الخ (6) .
وقد أدت السياسات الحكومية فى مجال الأجور والمرتبات ، إلى انتشار هذه الممارسات بحيث أصبح لدينا ما يمكن أن نسميه " المرافق الموازية " أو غير الرسمية مقابل الأجهزة الحكومية الرسمية ، مثل خدمات التعليم والصحة والشرطة والأمن والمحاكم ومكاتب التوثيق والشهر العقاري والمرور وغيرها (7) .
وقد دفعت هذه الظواهر المتنامية ، بعض المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، إلى دراسة هذه الظاهرة الاقتصادية والمالية ، ففى عام 1998 أعد مجموعة خبراء بصندوق النقد الدولي I.M.F حول موضوع الاقتصاد الخفى على مستوى العالم ، وقدرتها الدراسة بنحو 9 تريليون دولار أى ما يعادل 23% من الناتج المحلى العالمي الذي بلغ ذلك العام 39 تريليون دولار (8) .
للحصول علي نسخة من الكتاب أضغط الرابط
https://drive.google.com/file/d/1JnU0NgLjXl7yfVEuOaYOxD6LPn3po9cI/view?usp=drivesdk