محمد-قدري-حلاوة-يكتب كرانيش


تأخر " حمدي" صانع الجبس عن الحضور في الموعد المحدد... أخذت أنظر إلى الساعة في قلق.. تري ما الذي دعاه للتأخر؟ .. لم يكن من عادة "، حمدي التخلف عن موعده.. كان من هؤلاء" الصنايعية " الذين يمتازون بالضمير اليقظ.. و المهارة.. والمواعيد الدقيقة والأجر المقبول.. كما أنه من تلك النوعية من البشر التي تندمج معهم بسرعة وتطمئن إلى صحبتهم وتزول بينكما الحواجز الإنسانية المصطنعة.. وتصبح تلك الصدفة العابرة التي جمعتكما مرشحة لتصبح نوعا ما من الصداقة والود والإحترام المتبادل..

عرفته في منتصف التسعيييات من القرن الماضي.. كان " حمدي" حينها شابا في العقد الرابع من عمره.. قوي البنية.. ذو ملامح وسيمة.. يستخدم في عمله عدته البسيطة المكونة من برميلين من الصفيح يعلوهما الصدأ.. وبضعة ألواح من الخشب يضعهم ليصنع منها معبرا يتنقل خلاله بين الأركان.. والبعض الأخر لمساواة طبقات الجبس صانعا أشكالا فنية جميلة من " السرر" و " الكرانيش".. ولا يستعين في عمله بأحد سوي إبنه الصغير الذي كان لا يفعل شيئا في الحقيقة سوي مراقبة والده.. يحرص دائما عندما ينتهي من عمله على أن يبدل ملابس العمل الملطخة ببقع الجبس بملابس نظيفة أنيقة.. لهجته تدل على أصله الريفي.. وكان لا يستنكف عن أداء أعمال أخرى لا علاقة لها بمهنته كأن يحمل شكائر الجبس والأسمنت بنفسه كأي عامل من " الفواعلية".. أو تكسير الأرضيات والحوائط ويتناول أجره راضيا.. وعندما كنت أسأله عن دوافعه لفعل ذلك كان يجيبني مبتسما " محدش ضامن بكرة.. أنا كنت بأنقش رسوم على الحيطة وخلاص راحت عليها.. كنت بأدهن جير وزيت ودلوقتي محدش بيطلبهم.. بكرة تروح برضه على" السرر" و" الكرانيش".. طول ما أنا بصحتي بأحاول أشتغل في اللي أقدر عليه..العاقل اللي ميأمنش لبكرة"..

أختفي " حمدى" فجأة وأستمر غيابه أسبوعا.. وشعرت بقلق حقيقي عليه.. كما أنني لم أرد المخاطرة بإستبداله بغيره ولا أستطيع أيضا أن أؤجل أعمال التبليط والدهان أكثر من ذلك.. قررت أن أمر عليه في منزله..كان قد وصف لي ذات مرة منزله الذي يقع في" عزبة الهجانة" .. وهي إحدى المناطق التي توصف " بالعشوائية" والتي تتميز بالطرق الضيقة والمساكن المتلاصقة والخدمات المعدومة.. وبعد بحث طال أمده و سؤال بعض المارة أستطعت الوصول إلى المنزل..

طرقت الباب بيدي.. أطل " حمدي" برأسه وأستقبلني بترحاب شديد مصرا على أن أدخل وأتناول كوبا من" الشاي"..

وأمتد الحديث بيننا.. وعندما أطمئننت عليه وعلى أحواله سألته عن سبب تخلفه عن موعده أسبوعا كاملا.. أجابني وبكاء طفل صغير يتردد من حجرة مجاورة " الحكومة دخلت علينا.. كانت عايزة تمشينا من هنا وتهد بيوتنا.. ضربونا وضربناهم.. مقدروش علينا.. ياروح ما بعدك روح يا بيه..  هنروح فين.. الحمد لله أهم مشيوا... مش عارف هما عايزين مننا إيه.. ما يسيبونا عايشين في حالنا..هما ميفتكروناش غير في المصايب" ..

 مرت الأزمة وأصطحبت حمدي نحو منزلي لإستكمال العمل المؤجل.. وأنا أفكر كثيرا في تلك العلاقة الملتبسة دائما بين" المواطن " و" الحكومة " التي لا تحمل أي قدر من الحب أو التفهم وتبدو دائما مليئة بالشك والكراهية والعداء متوارية خلف ستار من المداهنة والنفاق أحيانا..هم دائما على هامش الحياة لا يطلبون شيئا من " الحكومة" ولا هي تتذكرهم أبدا أو تعيرهم بالا.. غائبون عن المشهد تماما.. يراقبون حياة ليست لهم ولا تعنيهم.. حاضرون فقط في المغرم ولا مغنم يجنونه سوي في زيارة عابرة لمرشح مجهول لا يعرفونه ولم يروه من قبل أبدا يأتي إليهم حاملا سلالا من الوعود البراقة التي لا تتحقق أبدا.. وبضعة بضائع رخيصة يمن بها عليهم.. وتظل العلاقة بينهم وبين " الحكومة" مشوبة دوما بالتوجس والريب وإنعدام الثقة..

أنهى" حمدي " عمله على أتم وجه ودقة.. وأنصرف مواصلا معركته مع الحياة.. التي بدا أنه مصمما على خوض غمارها طالما ظل متمعا بالصحة.." حمدي " نموذج من ألاف يقابلهم المرء في مشواره.. هم ليسوا سوي تكرارا " لسيزيف" الذي خلدته الأسطورة الشهيرة وهو. يحمل صخرته إلى أعلى الجبل ولا يصل أبدا..  كذلك هم يحملون شقائهم ولم يصلوا يوما للأمان والسكينة .. تتوقف حياتهم عندما تكل أياديهم وتفني قوتهم..هم ليسوا الفيلسوف " ديوجين" الذي يجول بمصباحه بحثا عن الحقيقة.. لكنهم مثله يجولون الدروب والأزقة وتمر أعمارهم حاملين شعلة الأمل المخادع في حياة أفضل وأقل قسوة.. كوعد السراب الذاهب بددا..لم يخلدهم ولا يذكرهم أحد.. ذاهبين إلى النسيان تماما كأجدادنا البنائين والذين لا يعرف أحد عن منحوتاتهم الشامخة سوي أسماء الفراعين..

كان " حمدي" محقا.. فقد ذهب عهد صنعته وحرفته وفنه.. وظهرت الأسقف المعلقة والحليات اللاصقة.. بالتأكيد قد وجد حرفة جديدة.. وأنتصر في معركة أخرى... هكذا ظني به.. طالما ظل متمعا بالصحة.. ونسيته " الحكومة" وتركته في حاله كما كان يردد ويتمنى..

تعليقات