الساعات الأخيرة في حياة ناصر .. بقلم محمد حسنين هيكل


صعد أمير الكويت إلى طائرته، والتفت الرئيس يطلب سيارته... وكان ذلك على غير المعتاد، فقد كانت العادة أن يذهب هو ماشياً إلى حيث تقف سيارته، وأن يحيى جماهير المودعين.

وجاءت السيارة ودخل إليها وهو يقول للسيد محمد أحمد:

- اطلب الدكتور الصاوى يقابلنى الآن فى البيت".

واستقل المصعد من الدور الأول فى بيته إلى الدور الثانى... وكانت الأسرة كلها فى انتظاره.

وأحسوا جميعاً أنه متعب، ولكنه وقف وسطهم دقيقة يتحدث فيها مع حفيديه "هالة" و"جمال"، ثم يتوجه بعد ذلك إلى غرفة نومه، وتلحق به السيدة الجليلة قرينته، تسأله متى يريد الغداء، ويقول لها وهو يخلع ملابسه:

"لا أستطيع أن أضع شيئاً فى فمى".

ويرتدى بيجامة بيضاء مخططة بخطوط زرقاء ويدخل إلى سريره ويجىء الدكتور الصاوى، وتستأذن السيدة الجليلة قرينته فى الخروج، لأنها - كما عودها دائماً - لا تقف فى الحجرة وهناك فيها غيره، حتى ولو كان الطبيب.

لكن قلبها لا يطاوعها على الخروج بغير سؤال لمحه الرئيس فى عينيها قبل أن تنطق به.

وقال لها مطمئناً:

- لا تخافى، أظنه نقصاً فى السكر...

وقالت بسرعة:

- هل أجيئك بشىء...؟.

وقال الدكتور الصاوى:

- أى عصير...

وذهبت هى تعصر كوب ليمون وكوب برتقال...

بينما الدكتور الصاوى يشعر من أول لحظة أن هناك طارئاً خطيراً... ويخرج من الغرفة ليتصل بالسيد محمد أحمد على التليفون... ويطلب منه استدعاء الدكتور منصور فايز والدكتور زكى الرملى.

ويعود إلى الغرفة، والسيدة الجليلة قرينة الرئيس تدخل إليها حاملة كوب عصير برتقال وكوب عصير ليمون.

ويختار الرئيس كوب البرتقال ويشربه... وتخرج هى من الغرفة، ويبدأ الدكتور الصاوى محاولاته لوقف الطارئ الخطر.

كان تشخيصه على الفور أن هناك جلطة فى الشريان الأمامى للقلب... ولما كانت الجلطة السابقة فى سبتمبر من العام الماضى قد أثرت فى الشريان الخلفى... إذن فإن الموقف دقيق وحرج.

ويصل الدكتور منصور فايز، وعند وصوله، تحس السيدة الجليلة قرينة الرئيس أن هناك شيئاً غير عادى.

كانت طوال الوقت واقفة تنتظر فى قاعة الجلوس التى تجتمع فيها الأسرة، وهى على مدخل البهو المؤدى إلى غرفة مكتب الرئيس، ثم غرفة نومه فى الدور الثانى من البيت.

وحين وجدت الدكتور منصور فايز أمامها، اقتربت منه والقلق يشد ملامحها، لتقول له:

"لا تؤاخذنى يا دكتور... لا أقصد إساءة... ولكن مجيئك يقلقنى... أنت تجىء عندما يكون هناك شىء غير عادى".

وقال لها الدكتور منصور فايز:

"أرجوك أن تطمئنى... كل شىء بخير إن شاء الله".

ودخل... وبعد قليل لحق به الدكتور زكى الرملى.

كان التشخيص واحداً... وكانت الإسعافات التى بدأها الدكتور الصاوى قبل مجيئهما مستمرة، وكان الرئيس متنبهاً إلى كل ما يجرى.

وحوالى الساعة الخامسة، بدا أن الأمل يقوى.

كان النبض قد بدأ ينتظم، وضربات القلب تعود إلى قرب ما هو طبيعى.

واستراح الأطباء، والتقطوا أنفاسهم وهم بجواره، وهو يراقبهم بابتسامة هادئة على شفتيه.

ثم بدأ يتحدث معهم.

كانت الساعة الخامسة إلا خمس دقائق بالضبط.

وقال له الدكتور منصور فايز:

"إن الرئيس فى حاجة إلى إجازة طويلة".

وقال الرئيس:

"كنت أريد أن أذهب إلى الجبهة قبل الإجازة هل أستطيع أن أذهب وأرى أولادنا هناك قبل أى إجازة".

وقال الدكتور منصور فايز:

"إن ذلك سوف يكون صعباً... ويجب أن تسبق الإجازة أى نشاط آخر".

وقال الرئيس:

"إن كل الوزراء اليوم فى الجبهة... لقد طلبت أن يذهبوا إلى هناك، وأن يعيشوا يومين مع الضباط والجنود... يجب أن يعرفوا، ويعرف كل مسئول حقيقة ما يقوم به الجيش فى الجبهة".

وهمّ الرئيس فى فراشه ومد يده إلى جهاز راديو بجانبه وفتحه، يريد أن يسمع نشرة أخبار الساعة الخامسة من إذاعة القاهرة.

وبينما اللحن المميز لنشرة الأخبار من إذاعة القاهرة ينساب فى الغرفة، ويبدد بعض الشىء جوها المشحون بالطارئ الخطر أحس الدكتور منصور فايز أنه يريد أن يدخن سيجارة، وتصور أن خروجه من الغرفة ليدخن سيجارته قد يكون فرصة تطمئن فيها السيدة الجليلة قرينة الرئيس على صحته.

وخرج فعلاً إلى غرفة المكتب ثم إلى البهو المؤدى إلى غرفة الجلوس ووجدها أمامه ويدها تعصران وجهها من القلق ومشقة الانتظار.

وقال لها باسماً:

"إنه بخير والحمد لله".

وسألته بلهفة:

- صحيح؟؟.

وقال لها:

"إننى كطبيب، أسمح لك بأن تذهبى وتريه بنفسك".

وقالت له:

"أخشى إذا دخلت أن يشعر بقلقى ويتضايق... إنه لم يتعود أن أدخل وهناك أطباء، وإذا دخلت فقد يتصور أن هناك شيئاً غير عادى".

فى غرفة النوم، كان المشهد يتغير بسرعة لم تكن متوقعة.

استمع الرئيس إلى مقدمة نشرة الأخبار ثم قال:

"لم أجد فيها الخبر الذى كنت أتوقع أن أسمعه...".

ولم يقل شيئاً عن الخبر الذى كان ينتظر سماعه.

وتقدم منه الدكتور الصاوى وقال:

- ألا تستريح سيادتك... إنك فتحت جهاز الراديو ثم قفلته ولا داعى لأى مجهود الآن؟.

وعاد الرئيس يتمدد تماماً على فراشه، ويقول بالحرف:

- "لا يا صاوى... الحمد لله... دلوقت أنا استريحت".

ولم يفرغ الدكتور الصاوى من عبارة يقول فيها:

"الحمد لله يا فندم...".

لم يفرغ، ونظره مركز على الرئيس، حتى وجده يغمض عينيه ثم وجد يده تنزل من فوق صدره، حيث كان وضعها، وتستقر بجواره.

بعدها لم يشعر عبد الناصر بشىء...

لم يقل كلمة.

وكانت ملامح وجهه تعكس نوعاً غريباً من الراحة المضيئة.

وجرى الدكتور الصاوى هالعاً ينادى الدكتور منصور فايز ووقف كل الأطباء حول الفراش، وبيدهم وعقولهم كل ما يستطيعه العلم.

ووصلت إلى البيت، وصعدت السلم قفزاً، وكانت السيدة الجليلة قرينة الرئيس أول من لقيت، وكانت إحدى يديها تضغط على خدها، واليد الأخرى تمسك برأسها، وليس على لسانها، وقد ملكها الخوف والخطر، إلا نداء واحد:

"جمال... جمال...".

وكانت تكتم نداءها حتى لا ينفذ إلى حيث يرقد هو.

وعبرت غرفة مكتبه بسرعة إلى غرفة نومه، وإلى فراشه، وكان الأطباء مازالوا من حوله، وكان ممدداً على الفراش وسطهم... بالبيجامة البيضاء وخطوطها الزرقاء.

وفوجئت بما رأيت.

عندما دعيت إلى البيت لم يخطر ببالى ما قدر لى أن أراه.

أقصى ما خطر ببالى عندما دعيت إلى بيته "لأنه متعب"، هو أن شيئاً مما ألم به فى العام الماضى قد عاوده.

لكنى لم أكن مهيأ لما رأيت.

ولأول نظرة على الفراش، فإننى أحسست بما لا أستطيع اليوم، ولا غداً أن أصفه من مشاعرى.

كان هناك على الفراش هدوء غريب.

صمت كامل...

كان هناك شىء واحد يلمع بشدة، وهو دبلة الزواج فى يده، ينعكس عليها ضوء النور المدلى من السقف.

ولم أحاول أن أقترب من أى واحد من الأطباء، فلم يكن من حق أحد أن يشغلهم.

والتفت حولى إلى بقية من فى الغرفة: شعراوى جمعة، وسامى شرف، ومحمد أحمد.

وكانوا جميعاً مثلى معلقين بين السماء والأرض.

ووجدتنى أدور فى الغرفة وأبتهل...

أردد والدموع تنزل صامتة: يا رب... يا رب.

ثم أرقب محاولات الطب الأخيرة، وأناديه فى علاه يا رب غير ممكن... يا رب غير معقول".

وتستمر محاولات التدليك الصناعى للقلب.

وتتكرر تجربة الصدمة الكهربائية، والجسد الطاهر المسجى يختلج، ولكن الهدوء يعود بعد كل اختلاجه... بلا حس ولا نبض.

وأحسست أن الأطباء قد فقدوا الأمر... وأنهم لا يحاولون بالعلم... ولكن يحاولون ضد العلم.

وجاء على صبرى ووقف مبهوتاً أمام ما يجرى.

وجاء حسين الشافعى، واستدار إلى القبلة يصلى لله.

وجاء أنور السادات ووقف أمام الفراش رافعاً وجهه إلى السماء يتمتم بآيات من القرآن.

ودخل الفريق أول محمد فوزى والذهول يملأ وجهه، فى نفس اللحظة التى قال فيها أحد الأطباء:

"إن كل شىء قد انتهى...".

وقال الفريق أول فوزى بحدة ملتاعة:

- لا... لا يمكن... واصلوا عملكم".

وانفجر الدكتور منصور فايز باكياً... وانفجر معه كل الأطباء باكين.

وانهمرت الدموع... طوفان من الدموع.

ودخلت السيدة الجليلة قرينته إلى الغرفة المشحونة بالجلال والحزن.

... لا يمكن لأحد أن يصف أحزانها المتوهجة كالجمر المشتعل...

أمسكت يده تقبلها وتناديه.

وسمعت أحد الباكين يقول:

- الرئيس... الرئيس...

والتفتت تقول:

"لا تقولوا الرئيس... قولوا إنه جمال عبد الناصر وكفى... سيبقى بالنسبة لى وللناس كلهم جمال عبد الناصر".

ثم انحنت عليه تقبل يده مرة أخرى وهى تقول:

"لم يكن لى فى الدنيا سواه... ولا أريد فى الدنيا غيره... ولا أطلب شيئاً إلا أن أذهب إلى جواره حيث يكون".

ثم التفتت إلى السيدة الجليلة فى حزنها الذى يفتت الصخر، تسألنى:

"قل لى أنت... رد على... ألن أسمع صوته بعد الآن؟".

وأقبل أحد الأطباء يغطى وجهه.

ونظرت إليه متوسلة بالدموع والنشيج:

"اتركوه لى... أنظر إليه... أملأ عينى به".

واستدار كل من فى الغرفة خارجين... تاركين لها اللحظة الأخيرة، وحدها معه...

وعندما جاءت السيارة التى تنقل جثمانه الطاهر إلى قصر القبة، كانت فى وداعه حتى الباب، وكانت كلمتها المشبوبة باللهب الحزين والسيارة تمضى به:

"حتى بعد أن مات... أخذوه منى... لم يتركوه لى".

وانطلقت به السيارة فى جوف الليل الحزين.

وسرى النبأ كعاصفة برق ورعد... وزلزال يهز البحر الأبيض - قلب الدنيا وبؤرة التاريخ - من أعماق الأعماق إلى ذرى الأمواج العالية.

- وفى شرق البحر الأبيض - فى عمان - تسمرت الدبابات فى أماكنها، وخرج رجال المقاومة من خنادقهم يصرخون وينادون عليه.

وأجهش حافظ الأسد وزير الدفاع السورى بالبكاء، وهو يقول:

- كنا نتصرف كالأطفال، وكنا نخطئ... وكنا نعرف أنه هناك يصحح ما نفعل ويرد هو آثاره".

- وفى شرق البحر الأبيض - فى تل أبيب - كان النبأ أخطر من أن يصدق للوهلة الأولى، وقالت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل:

- من الذى أطلق هذه النكتة السخيفة؟".

ثم تأكد النبأ، وخرجت جولدا مائير تشارك الشعب الإسرائيلى فرحته بالخلاص من أعدى أعداء إسرائيل.

وأصدر ديان أمره إلى القوارب المعدة للتدخل الإسرائيلى - الأمريكى أن تتفرق...

- وفى شمال البحر الأبيض كان الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون قد صعد لتوه إلى ظهر حاملة الطائرات ساراتوجا... ثم توجه إلى كابينة القيادة التى سيحل بها أثناء مناورات الأسطول الأمريكى السادس التى كان الهدف منها أن يسمع جمال عبد الناصر فى القاهرة صوت مدافعه. ودخل عليه مساعده هالدمان بالنبأ.

وذهل نيكسون...

ثم كان قوله بعد قليل:

- لا داعى الآن لهذه المناورة كلها.

وصمتت قعقعة السلاح على قطع الأسطول الأمريكى السادس، وطأطأت المدافع رؤوسها للحدث الخطير الذى يتعدى بآثاره كل الحدود.

وران على البحر الأبيض - قلب الدنيا وبؤرة التاريخ - سكوت كثيف.. وهدأت العواصف وارتمت الأمواج على الشواطئ وقد استنفدت كل قواها.

وكان جمال عبد الناصر فى حياته أكبر من الحياة.

وكان جمال عبد الناصر بعد رحيله أكبر من الموت!

تعليقات