د . يحيى القزاز يكتب : عن الأسماء الرقمية


دائما يردد بفخر: "عندما ولدت انتزعت حريتى من رحم أمى، وبيديي قطعت حبلى السري، وفى التو واللحظة، كتبت اسمى في شهادة ميلادى: ليث، وصفتى: حر مستقل، ووطنى: من المحيط إلى الخليج. وذهبت للدنيا أصارعها" دائما يؤكد على فعل هذه الواقعة كحقيقة لا مجاز، مستعيرا أهمية لذاته البسيطة المنكورة في القرية.

بعد ستة عقود استخرج شهادة ميلاد جديدة بنظام الميكنة الحديث. وجد فى منتصفها كود مركزى، لم يُدَون فيها اسمه ولا صفته ولا وطنه. ظن في الأمر خطأ. عرف أنه النظام الجديد. أُلغيت فيه الأسماء والصفات وحُولت إلى أرقام لتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع في مجتمع العدل. الأرقام متاحة في "السيستم" (النظام) الجديد مقابل الثمن. ولكل رقم سعر حسب وزنه وفعاليته. اشتكى الرجل رقة الحال والتمس الاحتفاظ باسمه لعدم قدرته على الدفع، كان الجواب: الاسم الوحيد لدينا هو للملك والكل أرقام، فهل تريد منازعة الملك ملكه واسمه. تصلب وتذكر حالته التي يفاخر بها دوما، لكن سرعان ما رأى صمت الجميع، والاصطفاف في طوابير الدفع. ثأثأ وانصرف.

باع الرجل القيراطين الذين ورثهما ليشترى لنفسه وأبنائه الخمسة وزوجته أرقاما مميزة، تمنحهم وجاهة اجتماعية، توفر لهم حماية تدر عليهم دخلا. بغياب الأسماء يغيب ماضى الناس البائس وتتحقق المساواة الكاذبة. مايملكه من مال لا يمكنه من الحصول على أرقام تتيح له وأسرته ما ينقذهم من البؤس.

استجاب الرجل لنصيحة موظف "جهاز التحويل الرقمى للأسماء" بالتخلي عن ستة أفراد من أسرته ذات السبعة أشخاص، وبما يملك من مال يؤهله للحصول على رقم مميز لفرد واحد، وأن يعيش فرد مميز أفضل من عيشة العدم للجميع. تشاور في الأمر مع أسرته. اقترحت الزوجة أنها وزوجها لم يعودا بحاجة لأرقام اثبات الهوية، فما تبقى لهما من العمر ليس بكثير. بعد أن باع والدهم القيراطين، رفض الأبناء الخمسة شراء أرقام عادية تعيد لهم سيرتهم الأولى فى البؤس والشقاء وعدم الأمان.

بعد فترة عادوا لأبيهم وأمهم فرحين بحل لفرد. اختاروا شقيقهم الأصغر سنا لشراء رقم مميز له، فهو المتعلم الوحيد فيهم، ليحيا حياة كريمة بوضع يُعمل له حساب مع الأكابر ويكون حماية لهم ومظلة.. كله بالفلوس. وحين سألهم والدهم عن وضعهم بدون هوية أجاب الأربعة: سيهاجرون عبر البحر لأوروبا فلا رزق لهم في قريتهم، ولا أمان بغير هوياتهم، وحياتهم صارت "معيشة من قفا الموت"، ووجودهم في القرية بغير أسماء رقمية هو والعدم سواء.. هذه أوامر الملك. أطرق الرجل في الأرض ملياً...

وقف الابن الأصغر في الصف ينتظر دوره في الدفع بعد ان اختار رقما ذا قيمة، فاجأه المحصل بأن الثمن ينقصه غرامة تأخير واجبة الدفع. استدان والده من جاره بضمان أبنائه الذين هاجروا  للعمل في أوربا لدفع الغرامة.

في الصباح دفع الابن المبلغ المطلوب وانصرف إلى داره. في اليوم التالى ذهب الأب مع ابنه لاستلام الشهادة الرقمية. رأيا من على بعد هرج ومرج وسمعا هتافات صارخة: "السيستم" وقع السيستم وقع و"اتلغى" قانون "الأسماء الرقمية". سقط الأب مغشيا عليه.

فى العودة للمنزل رأى الناس ينصبون سرادق العزاء، فقدَ أبناءه الأربعة غرقى وهم يعبرون البحر.

 

تعليقات