داوها بالتي كانت هي الداء. قاعدة لها بعض النفع في المداواة بجرعات شديدة الضآلة من العناصر المسببة للداء في مفهوم الطبابة المثلية homeopathy، وهي نافعة أيضا في مداواة جراح الحب الضائع بحب بديل، وهاهي تبزغ في أفق الطاقات البديلة، بفكرة تبدو كما حلم جنوني، لكنها كما كل أحلام العلم التي بدت جنونية في عمرها الباكر، تتقدم الآن لتتجسد حقيقة مذهلة على الأرض، فتحصل البشرية المذعورة من خلو وفاضها المستقبلي من الطاقة على كهرباء من الهواء! وبمساعدة الشمس. طاقة تدوم مادام تحت خيمة كوكبنا الأزرق اللؤلؤي هواء، ومادامت تسطع على هذا الكوكب شمس، لكنها ليست طاقة الرياح التي بتنا نعرفها، ولا طاقة المحطات الحرارية الشمسية أو الكهروضوئية، بل هي دمجٌ مُعجِز البساطة لأفضال الهواء والشمس معا، وبأداة بالغة البساطة، طالما التصقت في وعينا بالنقمة، فهي المداخن، وهاهي تتحول بعد تطهُّرها وتطاوُلِها إلى نعمة، لأنها صارت مداخن ليست كالمداخن!
مداخن جديدة عملاقة لايقل ارتفاع الواحدة منها عن 800 متر، أي ما يقارب ضعف ارتفاع ناطحة سحاب "الإمبير ستيت"، وقطرها أكثر من مائة متر، ولا ينبعث منها دخان، فهي لا تعتلي أفران ولا محارق من أي نوع، بل تتسنم نوعا من صوبات مترامية، قطر الواحدة منها يبلغ الخمسة كيلومترات، مسقوفة بألواح بلاستيكية شفافة لتجميع حرارة الشمس، فحين تسطع الشمس مشرقة على الصحراوات الشاسعة الجافة، تلك التي تماثل صحراءنا العربية، تتركز الحرارة تحت سقف الصوبة الشفاف الذي يأسرها ولا يفلتها كما في أي صوبة زجاجية، فيسخن الهواء في جوف الصوبة، ويتوق كما كل هواء ساخن للصعود والابتراد، ولا يجد أمامه غير فتحة المدخنة السفلى الرحيبة ترحب بتوقه المحموم، بل المقترب من درجة الغليان عندما تكون درجة حرارة الجو خارج الصوبة 45 درجة مئوية، ويتوسط عند 70 درجة مئوية عندما تهبط حرارة الجو عشر درجات كاملة، ويظل ساخنا عند درجة حرارة أقل بعد الغروب، وفي كل الحالات يظل يندفع ذلك الهواء الساخن بكل تدرجاته ليصعد في رحاب المدخنة العملاقة، وبسرعة تقارب سرعة سيارة منطلقة بلا جنون، فيدير الهواء الدافق في طريقه الصاعدة 32 تربينا تولِّد 200 ميجا وات من الكهرباء، أي خُمس ما يولِّده مفاعل نووي، وبتكلفة اقل من خُمس تكلفة المفاعل النووي، وما أن يُكتمل بناء تلك المدخنة العملاقة التي تقتنص الكهرباء من الهواء، حتى لاتكون هناك أعباء تشغيل إضافية، فلا وقود نووي ولا أحفوري، ولا تكاليف ترميم ولا دفن نفايات، ولا مخاطر إشعاعية، ولا تلوث بأي دخان حيث لادخان هناك. فأي حلم ؟!
نعم حلم، لكنه ليس حلما بغير علم، ومن ثم يخطو ليتجسد الآن، حقيقة يرسمها فريق علمي وهندسي استرالي اقتبس هذا الابتكار من خزانة التقنيات الألمانية، وأقام عليه شركة دولية طموحة تحمل اسما بالغ الدلالة هو: " مهمة بيئية " ENVIRO MESSION، وهي مهمة بيئية بامتياز، تضرب أكثر من عصفور بدفقة هواء وشمس واحدة، فإضافة لتوليد الكهرباء التي تكفي بها مدخنة عملاقة واحدة احتياجات مدينة يسكنها 200ألف إنسان، تكون هناك إمكانية لإعذاب مياه البحر، وسياحة تحمل مرتاديها في مصاعد شفافة إلى القمة العالية. أما على الأرض، فهناك الصوبة، لزراعة محاصيل تتطلب السخونة الغامرة، ولتجفيف محاصيل تنشد السخونة. أعجوبة لايُقرِّبها من حدود التصديق، غير كشف ما يكتنزه قلبها من علم، علم عبقري وبالغ البساطة في آن.
إنها بساطة المدخنة ، والتي تنهض على قاعدة في علم الفيزياء تُسمَّى " تأثير المدخنة" chimney effect، وهو تأثير يكاد يعرفه كل الناس بما صار لديهم سليقة، وإن كانوا لايعرفون جيمس ماكسويل الذي فسر ماكان لغزا حتى صار لدينا سليقة، عندما قدم عام 1860 ورقة بحثية عن أثر الحرارة في سلوك الغازات التي تتسارع جزيئاتها كلما ارتفعت حرارتها، فتخف للصعود ملتمسة أن تبرد، وتتلقف هذا الالتماس بنية المدخنة إذ يندفع الهواء الساخن نحو فتحتها السفلى ليصعد في قلبها، ويواصل الصعود والابتراد حتى يبلغ الفوهة العليا، عندئذ يتكفل سرٌ علميُ آخر بسحب الهواء الذي برد من فوهة القمة ليطوح به في السماء المفتوحة، ومن ثم يستمر ويتسارع سحب الهواء الساخن من جوف الصوبة إلى قاعدة المدخنة، طبقا لخبيئة علمية أخرى تكتنزها المداخن، اسمها " قاعدة برنولَّي "، وهي كما أعظم النظريات العلمية، تحمل ملامح الطرافة والبساطة المعجزتين التي تنطوي عليها قوانين الطبيعة، والتي ما كان لها أن تُكتَشف، إلا بتأملات عالم مثل برنُّولي، شغلته أعاجيب المداخن، وإن كانت مداخنه حيَّة!
لم تكن المداخن الأولى التي اكتشف بعضَ سرها "برنوِّلي" مداخن مصانع ولا قطارات، بل كانت مداخن في الجسد الإنساني، لايتصاعد عبرها دخان ولابخار، بل أنفاس حارة، ودماء دافقة، فبرنولي حامل إجازة الطب إضافة لأستاذيته في الفيزياء والرياضيات وحتى علم النبات، قدم في باكورة مسيرته العلمية أطروحتين أولاهما عن تصاعد الهواء عبر القصبة الهوائية برغم سلبية حركة عضلات الصدر والحجاب الحاجز عند الزفير، والثانية عن صعود الدم إلى المخ عبر الشرايين ضد الجاذبية الأرضية، وفي الوقت نفسه كان مهتما بحركة السوائل عند انتقالها من حيز واسع إلى أخر أضيق. وانكشف له السر عام 1726 في قانون لم يحمل اسمه إلا بعد موته بعقود، ومفاده "يكون ضغط تيار الماء أو الهواء كبيرا إذا كانت سرعته ضئيلة، ويقل الضغط إذا زادت السرعة"، وبتطبيق ذلك على ما يحدث عند الفوهة العليا من المدخنة، نرى بداهة أن سرعة الهواء الحر خارج الفوهة تكون أكبر مما في داخلها، ومن ثم يكون الضغط خارجها أقل، فيزداد ويتسارع سحب الهواء من داخل المدخنة إلى خارجها، وبالتالي يزداد ويتسارع أكثر سحب الهواء من داخل الصوبة إلى فتحة المدخنة السفلى، ويدير ذلك الزخم تربينات توليد الكهرباء بكفاءة أفضل.
إنها قوانين الله في خَلقِه، رأتها عيون التأمل العلمي في تكوين بدائي تكاد لاتتوقف أمامه عامة الأبصار، المداخن، التي استلهم سر صعود الهواء فيها جيمس ماكسويل، ثم سر تسريع خروج الهواء من فوهتها دانييل برنولي، وأتى من صنع من نتائج هذه التأملات حلما لطاقة جديدة آمنة نظيفة عبر مداخن بلا دخان، تخلع عنها تسمية المداخن فتكون أبراجا للطاقة Energy Towers، بل أبراج للطاقة الشمسية التي هي مصدر كل طاقات كوكبنا، فتُسمى " أبراج الشمس "ٍSolar Twers "، فهل هي أبراج لإنقاذ المستقبل، أم مجرد حلم من أحلام الإنقاذ؟
لتكن حلما، ولماذا لانحلم مع الدنيا التي تتحدى الدنيا لتحيل أحلامها إلى حقائق على الأرض تبهرنا وتوسع الهوة بيننا وبين العصر وضروراته، خاصة وأرضنا ساحة رحيبة وعطشى للإعمار بتألقات هذا الحلم، حلم أبراج الشمس والهواء، كل خمس مداخن تعطي ما يعطيه مفاعل نووي بلا أذى ولا خوف ولا ارتهان لغير الله صاحب الشمس والهواء، وكل خمس مداخن في ركن من أركان صحراواتنا العربية الحارة الجافة الشاسعة تعطي ما يعطيه مفاعل نووي، ألف ميجاوات من الكهرباء، تُحلِّي المياه المالحة وتضيء ليالينا وتحرك مصانعنا ومركباتنا التي ستكون بالضرورة كهربائية، في البر والبحر وربما في السماء أيضا. تصير صحراواتنا نعمة لامثيل لها، بعد أن تصورناها نقمة. ونتداوى بعطاياها حين يداهم الدنيا سقم نضوب الطاقات الملوثة للبيئة ، وسقم التلوث نفسه. فلنحلم، على الأقل الآن نحلم، فبعد الحلم عِلم.