قصة قصيرة "المعلم كاوتشه " بقلم معصوم مرزوق



هذه هي منطقته ، وهذا هو منطقه .. روض الفرج والساحل لغاية كوبري إمبابه ، وصحيح أن الذوق والأدب فضلوه علي العلم ، لكن القوة يا ناس أهم من الذوق والأدب والعلم علي بعض ..

هذا هو بطل قصتي أحمد زيدان الشهير بـ " كاوتشه " ، طويل عريض متعضل ، أسمر ، وفي وجهه ندبات كثيرة أبرزها خط عريض فوق حاجبه الأيسر يقول أنه نتج عن ضربة سيف من فتوة منطقة الخلفاوي في نزاع حول توزيع مناطق النفوذ .. 

صوته رقيق ناعم له فحيح لا يتناسب مع ضخامة جسمه ، وموقعه المختار هو مقهي " صباح الفل " في حارة العسلاوي ، أمام محل الكاوتش الذي يملكه ، وهو لا يتحرك من هذا الموقع إلا عند الطلب ، أو عندما تناديه زوجته سعاد من الدور الثاني فوق المحل مباشرة بصوتها الخشن العالي ، يضع مبسم الشيشة أغلب الوقت في فمه ، ويبدو شارداً أو غائباً وقد أرخي حاجبه الأيمن فوق عينه ، لا يضحك إلا في المساء عندما يجتمع مع رفاق الغرزة لتعاطي الحشيش ، بل أنه لا يتكلم إلا لماماً وعند الضرورة ، فإذا جاءه نداء سعاد نهض متثاقلاً وهو يهمهم وكأنما يحدث نفسه : " خلاص يا وليه .. طالع " …

يهوي إرتداء القمصان المشجرة والملونة بشكل فاقع ، ويتعمد فتح أزرارها كي تكشف عن شعر صدره الكثيف ، ولكنه لا يهتم كثيراً بنظافته الشخصية ، فذقنه أغلب الوقت غير حليقة ، ورائحة عرقه تنتشر حوله بشكل منفر ، ولا يخجل من قضاء حاجته علي جدار منزل أبو فريد القريب من الورشة ، ومن تراث الحارة الذي يتناقله الناس في حذر وبضحكات مكبوتة أن أبو فريد كان يمر ذات مرة فوجد " كاوتشه " مستغرقاً تماماً في قضاء حاجته ، وعندما تلاقت نظراتهما سارع أبو فريد بالقول : " شفيتم يا هندسة " ، فزام " كاوتشه " بشكل لم يفهمه أبو فريد ، فعاد يقول بسرعة : " والله دي بركة .. الحيطة حصلت لها البركة " …

قيل أن قبضته تفلق الصخر ، واشتهر عنه بأن إحدي السيارات الخاصة ركنت أمام ورشته ولم يستدل علي صاحبها ، فقام " كاوتشه " برفعها بذراع واحد إلي مكان آخر ، وبالطبع هناك المئات من الحكايات حول المعارك التي خاضها ، والعظام التي كسرها ، والنساء التي أثكلها ، والأطفال التي أيتمها .. 

ولكن لم يفهم أحد سر خنوعه غير المبرر لزوجته سعاد ، فهي امرأة كشرة منفرة ، ضخمة الجثة ، لسانها طويل علي كل الجيران ، تشتم بسبب وبغير سبب ، بل أنها أكثر شهرة من زوجها في استخدام ذراعها ، لأن حوادث مشاجراتها شوهدت بكل تفاصيلها في الحارة ، أما معارك زوجها فهي سماعية ، فلم يره أحد في معركة فعلية …

ولأنهما لم ينجبا ، فقد كثرت الشائعات المغرضة التي يتناقلها أهل الحي همساً ، فمن قائل أن سعاد عاقر ، ومن قائل أن السبب يكمن في عجز " كاوتشه " لأنه تلقي ضربة قوية في منطقة حساسة أثناء مشاجرة ، وهناك من قال أنها امرأة لا يمكن معاشرتها ، وأن " كاوتشه " يجد متنفسه في علاقات أخري مع بعض نساء الحي ، وبعض الغواني المحترفات ، وبالطبع كل طرف يؤكد رأيه بأدلة وأسانيد وحكايات ، إلا أن أحداً لم يستطع أن يجزم بالسبب الحقيقي …

كان سائقي الميكروباصات في منطقة نفوذه يدفعون " الفرضة " دون اعتراض ، وكذلك كان بائعي الخضروات والبقالين وأصحاب المحلات ، كما أن " كاوتشه " أو زوجته إذا دخلا أي محل يأخذان ما يشاءان من البضاعة ثم يخرجان دون أن يدفعا ، بل أن صاحب المحل ينهض باشاً مرحباً ومودعاً في حرارة والإبتسامة تملأ وجهه ..

وفي إجتماعات الغرزة يتكلم " كاوتشه " عن الهموم الثقيلة التي يحملها ، فهو الذي قام بالتوسط لإصلاح ذات البين بين أم زكي وزوجها بعد أن تشاجرا علي المصروف ، وهو الذي حل مشكلة إنقطاع المياه عن شارع البستاني ، وهو الذي تدخل في قسم الشرطة كي يفرج عن الأسيوطي الحرامي ، كما أنه هدد مديرة مدرسة الجيل الجديد كي تقبل إبنة أبو فريد .. ولا ينسي أن يلمح أنه يدفع هنا وهناك كي يسهل الأمور ، فالقوة لها وقتها ومكانها ، ولكن السياسة أيضاً والمفهومية لها دور ، وهو لا يلجأ لذراعه إلا إذا كانت هي الملجأ الأخير …

كانت منطقة نفوذ " كاوتشه " هادئة ومستقرة ، لدرجة أن بعض رجال الأحزاب كانوا يلجأون إليه أثناء الإنتخابات ، وكان الحزب الذي ينال ثقته يضمن وصول مرشحه إلي المجلس ، وبالطبع كانت فترة الإنتخابات تشبه المزاد الذي ينصبه " كاوتشه " ويكون تأييده مضموناً لأعلي سعر يقدم إليه ، ولكنه في إجتماعات الغرزة كان يبدي قرفه من بعض المرشحين الذين سيضطر لتأييدهم وفرضهم علي أهل الحي ، ويقول بصوته الثعباني : " والله لولا أن القرش يحترم ، لكنت رميت المرشح من الشباك " ، ويشرح للمساطيل أنه رغم أن القوة تركب فوق الذوق والأدب والعلم ، فأن القرش يركب فوق الجميع ، فيهزون رؤوسهم موافقين وهم يهمهمون بما يعني تقديرهم لأفكاره العالية ..

لذلك لم يصدق أحد أذنه حين سمع سعاد تصرخ مولولة وهي تنادي بإسم زوجها وتتأوه وكأنها حيوان جريح ، وظن الجميع أن " كاوتشه " قد تجرأ أخيراً عليها ولا بد أنه سيذبحها ، وسارع أبو فريد بالقول لمن حوله أن ذلك يؤكد ما قاله لهم من قبل حول علاقات سعاد المتعددة مع مجموعة الطلبة في الحي التي فاحت رائحتها ، فلا بد أن " كاوتشه " قد شم خبر بها ، بينما قال آخر أن المسألة لا تزيد عن أنه أكتشف أن زوجته تتعاطي حبوب منع الحمل منذ سنين لأنها لا تريد أطفالاً يحملون رائحته .. 

وهكذا ظلت الأقاويل تتردد حتي اتضح أن سعاد تتعارك مع صاحب الصيدلية الجديد الشاب الدكتور فوزي ، وهو حديث التخرج قصير نحيل يرتدي نظارة سميكة انتهي من إعداد محل الصيدلية منذ أسبوع واحد فقط ، وسبب المشكلة أن سعاد طلبت شريط أسبرين ، وعندما طلب منها ثمن الشريط أحدثت من حنجرتها صوتاً منكراً ، وعندما لم يفهم شتمته ولعنت سنسفيل جدوده ، فما كان من الشاب المؤدب إبن الناس إلا وأن صفعها علي وجهها بقوة وهو يقول لها بحسم : " إحترمي نفسك " ..

وسري الخبر سريان النار في الهشيم ، وتركزت العيون علي " كاوتشه " الذي ركل الشيشة بعد أن علم بالخبر واندفع في إتجاه الصيدلية وخلفه أغلب الأهالي وخاصة الأطفال الذين كانوا يهللون له ويهتفون بشكل متتالي : " كاوتشه .. كاوتشه " ، وحبس الجميع أنفاسهم ، فهذه قد تكون المرة الأولي التي سيشاهدون فيها فتوة الحي في معركة حقيقية ، ورغم الشعور بالأسي من أجل الدكتور فوزي المسكين ، إلا أن الرغبة كانت متوقدة في مشاهدة العلقة الساخنة التي سينالها ، رغبة لم يفهمها أحد ، فكلهم كانوا متعاطفين مع الدكتور ، إلا أنه خرج عن المألوف ، وقام بالشيئ الذي ربما تمناه بعضهم ، ولذلك فأن عقابه مفهوم …

كان الدكتور القصير يقف أمام باب الصيدلية ويتجمع حوله بعض الناس ، بينما علي مقربة منه كانت سعاد تمزق ملابسها وتنكش شعرها دون أن تتوقف عن الصراخ وهي تهدده بأن ذلك آخر يوم في عمره ، والدكتور يشب علي قدميه بين أعناق الناس ويقول لها : " تأدبي يا مدام ، عيب كده " ، وعند وصول " كاوتشه " بين الجمهرة التي صاحبته ، انزاح المتجمعون حول الدكتور فجأة وكأنهم موجة بحر منحسرة ، وهكذا أصبح وحده في مواجهة سعاد التي انقضت عليه ممسكة بتلابيبه ، تمزقت أزرار قميصه وسقطت نظارته ، إلا أنه نجح مرة أخري في صفعها بشدة لدرجة أنها سقطت متأوة فوق الأرض ..

اندفع " كاوتشه " إلي زوجته وساعدها علي النهوض ، وعندما حاولت الإفلات بين يديه كي تتوجه مرة أخري إلي الدكتور ، قال لها بصوته الرفيع ولكن بحسم : " إرجعي البيت " ، فبدأت تطلم وجهها وهي تحتج بأنها لن تعود إلا بعد أن تشرب دم الدكتور ، ويبدو أن الأخير أدرك أن ذلك القادم الجديد هو زوجها ، فقد تنحنح بعد أن التقط نظارته من فوق الأرض وعدل من هندامه ، وقال لكاوتشه : " شايف يا أستاذ المدام عملت إيه ؟ " ، وكأن ذلك كان إشارة لإنطلاق عشرات الشتائم والسخائم من فم كاوتشه وهو يتقدم متحفزاً إلي الدكتور ، ولكن الأخير لم يبد عليه التراجع ، بل وقف ينظر بتحد إلي كاوتشه ، وتركزت عليهما الأنظار مبحلقة وقد حبس الجميع أنفاسهم في توقع بمشاهدة مثيرة ، قال الدكتور فوزي : " عيب يا أستاذ الغلط " ، وكان ذلك آخر ما سمعه أو رآه أهل الحي من الدكتور ، فقد قفز كاوتشه في إتجاهه وألقي بجسده عليه فسقطا علي الأرض معاً ، وظل يضربه بقسوة ويعضه حتي تركه علي الأرض مغشياً عليه ، ثم اندفع بعد ذلك إلي الصيدلية بجنون يحطم كل محتوياتها ويلقيه علي الأرض ، ثم خرج وهو يحمل بين بين يديه علبة بها أشرطة للأسبرين ، نظر للناس المتجمهرين كقائد مظفر خرج من معركة صعبة ، ثم ألقي بالعلبة إلي زوجته التي كانت تزغرد ...

حضرت الشرطة وسيارة إسعاف ، ومنذ ذلك اليوم لم تفتح الصيدلية مرة أخري ، وأضيفت موقعتها إلي الحكايات التي يرويها كاوتشه لرفاق الغرزة ، وهو يضحك قائلاً : " عملت للدكتور محضر تحرش لأنثي " ، ثم يضيف هامساً : " حسبوها عليه أنثي !! " ، ويقهقه الرفاق وهم يسعلون بينما يتصاعد دخان الحشيش في الغرفة الضيقة ....

تعليقات