ولعل ما تقدم لا يضيف جديداً في ذاته ، لأنه من المؤكد إستقراره في عقول وضمائر العديدين منذ أن بدأت الأمة في الإنزلاق من قمتها الحضارية ، ومن أشهرهم كان العلامة عبد الرحمن بن خلدون ، حيث كان التساؤل الصريح أو الضمني هو كيف تدهورت الحضارة العربية / الإسلامية ، وكيف
يمكن إستعادتها ؟ ، وقد تفاقمت الأزمة عندما اصطدمت تلك الأمة في ميدان القتال مع أوروبا وأتضح الفارق الشاسع بين قدرات الطرفين ، وأستمرت الهوة الحضارية في التزايد لصالح الغرب لدرجة أربكت فكر الأمة ومفكريها .
فلقد ذهب إتجاه إلي رفض رؤية الواقع ، وإستمرار التعلق بالماضي / التاريخ أو محاولة العودة العكسية ( والمستحيلة ) إليه من خلال منهج يتخذ من أدوات ذلك الماضي أو ما يتوهم أنها أدواته وسيلة لتحقيق هذا الهدف المستحيل ، وهو في هذه المحاولة يضع أغلب أسباب التدهور علي أكتاف " الآخر " ، حيث تسيطر نظرية المؤامرة ، وتقتصر مسؤلية الأمة في إبتعادها عن " النموذج المثالي " للأوائل ، دون أي جهد نقدي حقيقي لذلك النموذج حيث أنه يكتسب هالة من القداسة لدي معتنقي هذه التوجه .
ويقترب من هذا الفريق فريق آخر يتخذ موقفاً عدائياً رافضاً للحضارة الحديثة بكل مشتملاتها ، دون تمييز بين ما يمكن الإستفادة به من منجزاتها ، وما يمكن إستبعاده من أيديولوجيتها وفلسفتها ، فهو رفض مطلق للآخر ، ولا يقدم في نفس الوقت البديل الموضوعي الممكن لتحقيق التقدم .
يري الإتجاه الأصولي أن من يطلق عليهم " الإصلاحيين " كانوا علي درجة من التبسيط المخل حين حاولوا أن يجسروا الهوة بين واقع الأمة المتخلف وبين الغرب من خلال النظر إلي محاولة البحث عما يوجد " لديهم " ولا يوجد " لدينا " ثم إستيراد ما لديهم كي يصبح لدينا وبالتالي يمكن حل مشكلة التخلف . ويري الأصوليون أن مشكلة هؤلاء الإصلاحيين أنهم لم يضعوا في إعتبارهم عنصر " الإسلام " بوصفه المميز الأول للأمة ، بل أنهم أعتبروا – ولو ضمنياً – أن هذا الإسلام هو سبب التخلف وبالتالي يتطلب إعادة النظر في نظامه .
ولا بد هنا من التحفظ في إستخدام مصطلح " الأصوليون " ، فلدينا في تحت هذه المظلة إتجاهات مختلفة منها مثلاً الإتجاه المتشدد أو المحافظ الذي تبنته الحركة الوهابية في القرن الثامن عشر الميلادي ، وتمثل في محاولة العودة إلي أمجاد الماضي بالتخلص من " البدع " التي استحدثت ، فهو تيار ضد الحداثة ، نشأ وترعرع في بيئة إسلامية/ عربية ولا يمكن الزعم بأنه إستيراد من الخارج ، ولكنه كان رد فعل لإرهاصات التيار الإصلاحي الديني والسياسي ، ومشكلة هذا التيار ( مرة أخري ) أنه يقطع علاقته بالتاريخ ، فهو يقفز قفزة هائلة كي يعود إلي فترة النبوة والخلافة ولا يتجاوزها مختصراً القرون التالية عليها بكل ما أشتملت عليه تفاعلات فكرية وإجتماعية وسياسية وثقافية أصبحت بلا شك جزء من نسيج الهوية .
ومن تحت عباءة التيار السابق خرجت فكرة " جاهلية المجتمع " ، فإذا كان التيار السلفي يريد العودة إلي فترة النبوة والخلافة ، فأن الإستطراد المنطقي لذلك هو أن المجتمع الحالي هو مجتمع الجاهلية ، ونبتت فكرة التكفير والعنف التي أصبحت خياراً يحتاج إلي مراجعة ، فمن ناحية هو خيار لوسيلة لا يمتلك المجتمع أدواتها ، بل هي أضعف نقاط النسيج العربي / الإسلامي ، ومن ناحية أخري فأنها هدر لطاقات يمكن توظيفها بذكاء لبناء عناصر القوة الشاملة الحقيقية التي قد يصبح مجرد إمتلاكها إعفاء من إستخدام هذا الخيار ، ثم ثالثاً – وهو الأهم – أن هذا الخيار دون قواعد تنظيمية وحركية يؤدي إلي أن يصبح العنف غاية في ذاته وليس وسيلة ، وتترتب علي ذلك نتائج سلبية عديدة لعل أخطرها إنفجار ثقافة العنف في المجتمع نفسه ، وهو ما حدث ويحدث للأسف الشديد ..
وهنا لا بد من التحفظ علي أن هذا الخيار قد يكون مطلوباً ومرغوباً في حالات الدفاع عن النفس والوجود مثل النضال العسكري الذي تمارسه الفصائل الفلسطينية ضد الإحتلال الإسرائيلي مع فصل ذلك عن المقاومة الحضارية بمفهومها الأشمل .
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق